أصدرت منذ أيام منظمة (أطباء من أجل حقوق الإنسان)* الحائزة على جائزة نوبل، تقريرها الخاص بسوريا تحت عنوان "أطباء في مرمى النار" والذي يتحدث عن انتهاكات نظام الأسد في سوريا منذ بداية الثورة السورية 2011 بصورةٍ منهجية، لمبدأ عدم استهداف العاملين في المجال الطبي والمرافق الطبية، معتمداً على الهجمات على العاملين في المجال الطبي وعلى المرافق الطبية كسلاح من أسلحة الحرب.
بدأ الأمر عندما تدخَّل النظام في خدمات الرعاية الصحية وعرَّضها للخطر باعتقاله المتظاهرين الجرحى من غرف الطوارئ، ولكن سرعان ما تصاعد الأمر حتى وصلَ إلى قصف المشافي في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة واعتقال وتعذيب وإعدام الأطباء الذين كانوا يلتزمون بأخلاق المهنة فيعالجون الجرحى بصرف النظر عن معتقداتهم السياسية. ولقد قتلت قوات النظام جل الأطباء الذين خاطروا بحياتهم وبقوا بسوريا وعالجوا الجرحى، إذ اعتبر النظام تقديمَ العلاج الطبي لـ "الطرف الآخر" جريمةً عقابها الموت.
ومع اقتراب الصراع من سنته الخامسة، قتل النظام السوري ما لا يقل عن 610 شخص من الكادر الطبي، وشنَّ 233 هجوماً متعمداً أو أعمى على 183 مرفقاً طبياً. وقد وثقت منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان عمليات القتل هذه والهجمات، التي يجري تحديثها شهرياً. فالحكومة السورية مسؤولة عن 88 في المائة من الهجمات المسجلة على المشافي وعن 97 في المائة من حوادث قتل العاملين في المجال الطبي، تعود 193 حادثةً منها مباشرةً إلى التعذيب أو الإعدام. وهذه أرقامٌ متحفظة بالنظر إلى صعوبة الإفادة عن هكذا حوادث في ظروف الحرب. لكن ثمة شيءٌ مؤكد، هو أن هذه الهجمات متعمدة وذات أثرٍ تصاعدي على صحة السوريين. فبعد أربع سنوات ومئات الهجمات بات قصف مشفىً واحدٍ فقط يؤدي إلى عواقبَ كارثية. بالفعل، فمع تناقص المرافق الطبية ومقدمي الرعاية، يمكن أن يؤديَ هجومٌ واحد إلى تدمير المشفى الوحيد الذي يخدم حياً بأكمله وقتل الطبيب الوحيد الذي يعمل في هذا المشفى. ومع كل طبيبٍ آخرَ يقتل أو مشفىً آخرَ يدمَّر، يصبح مئات – بل آلاف – السوريين بلا مكان يذهبون إليه لتلقي الرعاية الطبية.
أظهرَ الأطباء السوريون شجاعةً وصبراً في وجه أسوأ كارثةٍ إنسانية في هذا الجيل. ففي السنوات الأربع الماضية، لم يقدموا وحسب الرعايةَ الطبية في ظروفٍ خطيرةٍ مميتة، بل شَهدوا كذلك موتَ زملاءَ وأصدقاءَ وأقاربَ لهم وألوفٍ من المدنيين قضوا في الهجمات غير المشروعة ومن قلة الرعاية الطبية الواجبة ببلدٍ أتت الحر ب على نظام الرعاية الصحية فيه أو كادت تأتي عليه. وبالرغم من اشتداد الهجمات على الصحة بسوريا سنةً بعد أخرى في هذا الصراع، ما يزال الأطباء يخاطرون بكل شيء لإنقاذ حياة الناس.
نظام مدمّر: الكفاح لتوفير الرعاية الصحية بسوريا
بالنظر إلى مستويات العنف المتطرفة الممارَسة ضد أهل هذه المهنة واستهداف قوات النظام المباشر لهم، فرّ آلاف العاملين في المجال الطبي من البلاد نجاةً بأرواحهم، تاركين مدناً كاملة بلا أطباء طوارئ وأطباء قلب وغير ذلك من اختصاصات. واستخدَم مَن بقي منهم أسماءً مستعارة لحماية أنفسهم ولبناء مشافي ميدانية تديرها مجالس محلية ومنظما ت إغاثة. يعمل في هذه المرافق المؤقتة أطباء وممرضون وطلاب طب وبياطرة ومتطوعون دون تدريبٍ نظامي. وأغلقت عشرا ت المشافي لنقص الكادر والتمويل واللوازم، وبقي المدنيون الذين أصابهم قصف قوات حكومتهم من الجو بلا علاج. كما تواجه هذه المشافي باستمرار نقصاً في الضمادات وأكياس الد م والمحاقن ومواد التخدير وأكياس الموتى لأن الحكومة تعيق بصورةٍ منهجية إيصالَ المساعدة الطبية إلى المناطق التي تسيطر عليها المعارضة. كذلك راحت قوات النظام بشكلٍ منهجي تضايق وتعتقل مَن ينقل أدويةً وموادَ ولو كانت بسيطة كالضمادات، لحرمان سكان المناطق التي تسيطر عليها المعارضة من اللوازم الطبية. وفي إحدى الحالات المسجلة سنة 2012، اعتقل ممرض من ريف دمشق لتقديمه دواءً للمعارضة وعذِّب في المعتقل، حتى أ بلغت أسر ته بموته في آب 2014.
تضاعفت الهجمات على الرعاية الصحية أكثرَ من ثلاث مرات في السنة الثانية للحرب، وكان النظام مسؤولاً عن 97 في المائة من الهجمات التي شنت على المرافق الصحية وعن 99 في المائة من 199 حادثة وفاة للعاملين في هذه المرافق. وقد تلقت حلب ودمشق ودير الزور وريف دمشق النصيبَ الأكبر من الهجمات. وبالرغم من أن الأسلحة المستخدمةَ في الهجوم على المشافي لم تختلف عن تلك التي استخدمت في السنة السابقة، فقد انخفض عدد الوفيات الناتجة عن إطلاق النار وارتفع عدد تلك الناتجة عن الإعدام والقصف الجوي والبري. وكان صيف 2012 مدمراً جداً. فقد وَثقت منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان 28 هجوماً على مرافقَ طبية بين تموز وآب – وهو رقمٌ قياسي في الصراع. وكذلك شهر تموز، الذي قتل فيه 26 شخصاً يعمل في المجال الطبي، كان ثانيَ أسوأ شهر من حيث عدد الوفيات في صفوف هؤلاء العاملين، بعد أيار 2014.
الهجمات الضارية بالبراميل المتفجرة
وفي السنة الثالثة للحرب، ازدادت هجمات النظام عنفاً، فكان أكثر من نصف الهجمات التي وثقتها منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان على 53 مرفقاً طبياً هجماتٍ بصواريخ وقصفاً جوياً. وفي كانون ثاني 2014، بدأت قوات النظام حملتها الهجومية بالبراميل المتفجرة. البرميل المتفجر سلاحٌ بدائي قليل الكلفة يصنع من أسطوانةٍ تحشَى بالمتفجرات والشظايا والنفط، وهو يشعَل ويلقَى من طائرةٍ مروحية أو طائرة بجناحين. يزن البرميل الواحد من هذه البراميل بين 90 و900 كغ وهو سلاحٌ مدمرٌ للغاية وغير دقيق، لأنه ينشطر إلى آلاف الشظايا عند الاصطدام. شن النظام هجمتين بالبراميل المتفجرة على المرافق الطبية في ذلك الشهر، كان كلاهما في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة وتعج بالسكان المدنيين. وشنت قوات النظام ستَ هجماتٍ إضافية على مرافقَ طبية في مناطقَ مكتظة بالسكان وتسعَ هجمات على مرافقَ طبيةٍ منعزلة) لتقدّم دليلاً آخرَ على الطبيعة المتعمدة للهجمات (في هذه الفترة، برزت الجماعات المسلحة غير الحكومية كأطراف مهاجمة للمرافق الطبية، مسؤولةٍ عن تسع هجمات على هذه المرافق. وكان تنظيم داعش مسؤولاً مع جماعات أخرى عن هذه الهجمات التي شن ثلاثٌ منها على مشفى تشرين العسكري ومشفى حرستا العسكري. وبالرغم من استخدام قوات النظام هذين المشفيين العسكريين كمركزي اعتقالٍ وتعذيب، ولكن على اعتبار أنهما كانا يقدمان كذلك خدماتٍ طبيةً جارية، ما يجعلهما محميين بالقانون الدولي الإنساني! وفي تشرين الثاني 2013، وثقت منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان أولَ هجمتين على مشافٍ بسياراتٍ ملغمة، قامت بهما جماعاتٌ مسلحة غير حكومية.
وفي السنة الثالثة، قتل 171 عاملاً في المجال الطبي، قتلت قوات النظام 169 منهم، والتي قتلت أعداداً متزايدة من العاملين في المجال الطبي بالقصف الجوي أو التعذيب. في واحدةٍ من هذه الحالات، اعتقلت قوات الأمن الدكتور أسامة بارودي، طبيب الهضمية البارز ومؤسس اتحاد الأطباء السوريين الأحرار، في عيادته بدمشق في شباط 2012 وعذبته حتى مات في المعتقل أواخرَ تموز 2013. كان النظام يضرب المكانَ ثم ينتظر وصولَ المسعفين ليضرب مرةً أخرى، لقي كثيرٌ من العاملين في المجال الطبي مصرعَهم بهجماتٍ مزدوجة، كانت فيها قوات النظام تضرب المكانَ أول مرة، وتنتظر وصول المسعفين إلى المكان ثم تضربه مرةً أخرى. في 18 نيسان 2014، أسقطت قوات النظام برميلاً متفجراً مملوءً بغاز الكلور قرب مشفى وسام بكفر زيتا. أخليَ المرضى والطاقم الطبي من المشفى هرباً من الأبخرة السامة، وتوقفت الخدمات الطبية مؤقتاً. وفي 23 حزيران، قصفت قوات النظام المشفى مرةً أخرى ببراميلَ متفجرة أسقطتها من حوّامة، فدَمرت المشفى هذه المرة. وقتل في هذا الهجوم طفل حديث الولادة عمره ثلاثة أشهر، وقتلت معه ممرضة وجرح عدد من أفراد الطاقم الطبي. وبحسب البيانات التي جمعتها منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان بين 15 آذار 2014 و28 شباط 2015، قتل 162 من العاملين في المجال الطبي وشنَ 82هجوماً على مرافقَ طبية. منها 70 هجوماً شنتها قوات النظام على هذه المرافق، استخدمت في الهجوم صواريخ وقذائف صاروخية في 50 في المائة من الوقت وبراميل متفجرة في 40 في المائة. واستخدمت قوات النظام البراميلَ المتفجرة 12 مرة على الأقل في مهاجمة المرافق الطبية شرقي مدينة حلب فيما بين نيسان وحزيران 2014.
وخلال "الصراع"، استخدمت قوات النظام البراميلَ المتفجرة في 32 هجوماً على الأقل على 24 مرفقا طبياً. ولم تستخدم البراميلَ المتفجرة قرب خطوط الجبهة أو في الأماكن السكنية الواقعة تحت سيطرتها) خوفاً من إهلاك مؤيديها (بدلاً من ذلك، استخدَمت القذائفَ الصاروخية والصواريخ، التي تستطيع إصابةَ أماكنَ محددة.
وكانت قوات النظام مسؤولةً عن 93 في المائة من 162 حادثة قتل لعاملينَ في المجال الطبي السنة الماضية. وبالرغم من أن عددَ الوفيات الناجمة عن إطلاق النار قد انخفض، ارتفعت كثيراً أعداد الوفيات الناجمة عن القصف المدفعي والجوي. وطوال الحرب سجلت محافظ حلب أعلى نسبةٍ مئوية للوفيات الناجمة عن القصف المدفعي والجوي. وقد استهدف أكثر من 64 في المائة من الذين قتلوا في صفوف العاملين في المجال الطبي السنة الماضية لإنقاذهم حياةَ الناس أو أثناء قيامهم بعملهم وكانت هذه أعلى نسبة تسجَل خلال الحرب. ولقيَ كثيرٌ من العاملين في المجال الطبي مصرعَهم بهجماتٍ مزدوجة، كانت فيها قوات النظام تضرب المكانَ أول مرة، وتنتظر وصولَ المسعفين إلى المكان ثم تضربه مرةً أخرى. ففي 2 تشرين أول 2014، ذهب طبيبٌ ومسعف إلى مكانٍ في حي الحيدرية بمدينة حلب ضربته قوات النظام ببرميلٍ متفجر. وفيما كان الاثنان يعالجان جرحى الهجوم، ضربت قوات النظام المكانَ نفسَه ببرميلٍ متفجرٍ آخر، فقتلتهما معاً.
"لا مبالاة" العالم
استهدف النظام السوري الرعايةَ الصحية واستخدَم ذلك بشكلٍ متزايد كسلاح حرب لتدمير معارضيه بحرمانهم من الرعاية الطبية، وقتل بعمله هذا آلافاً من المدنيين. وهوجمت الطواقم والمرافق الطبية لأنها وضعت حاجات المرضى أولاً وقدمت الرعاية لكل أطراف الصراع.
يقول التقرير: "لاحظت بعض الجماعات المسلحة (غير الحكومية) لامبالاةَ المجتمع الدولي بهذه الانتهاكات المتكررة للقانون الدولي فاتبعت تكتيكات النظام". ورأت منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان هذه التكتيكات نفسَها تنتشر حول العالم: "فأطراف الصراع بأوكرانيا وغزة وجمهورية أفريقيا الوسطى شنت عشرات، إن لم يكن مئات، الهجمات على الطواقم والمرافق الطبية سنة 2014".
وتحول رمزا الصليب الأحمر والهلال الأحمر من دريئة حماية إلى دريئة استهداف لظهور أولئك الذين يخاطرون بحياتهم وهم يعملون لإنقاذ الآخرين. فلابد للمجتمع الدولي من التصرف بحزم واستعاد ة المعيار الذي يقرر وضعَ الحماية للطواقم والمرافق الطبية. صحيح أنه فات الأوان لكثيرٍ من السوريين من الطواقم الطبية التي استهدفت والمدنيين الذين باتوا بلا مكان يلجؤون إليه بحثاً عن علاج ينقذ حياتهم – لكنَّ العملَ المنسق يمكن أن يعكسَ هذا الاتجاه قبل أن يصبحَ هو المعيارَ الجديد السائدَ في الحروب.
ليس من الواضح كم من الوقت سيصمد نظام الرعاية الصحية وطواقمه المقهورة المسحوقة الممزَقة بسوريا. لكنَّ سنةً أخرى من البراميل المتفجرة وإعدام الأطباء ستسبب دماراً استثنائياً لملايين السوريين العالقين في مرمى النيران، الذين يموتون من جروح الحرب ومن الأمراض التي كان يمكن معالجتها.
*منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان
منظمة دولية وحائزة على جائزة نوبل، أسسها مجموعة من الأطباء عام 1986، اعتمدت المنظمة على الطبَ والعلم لتوثيق الأعمال الوحشية واسعة النطاق والانتهاكات العنيفة لحقوق الإنسان ولفت الانتباه إليها. وقامت على فكرة أن مهنيي الصحة، بما لديهم من مهارات متخصصة وواجبات أخلاقية وأصواتٍ مسموعة، هم في وضعٍ فريد يتيح لهم الإسهام في وقف انتهاكات حقوق الإنسان. تستخدَم المنظمة التحقيقات وخبراتها للدفاع عمن يتعرضون للاضطهاد من العاملين في المجال الصحي، ولمنع التعذيب، وتوثيق الأعمال الوحشية واسعة النطاق ومساءلة منتهكي حقوق الإنسان.
بدأ الأمر عندما تدخَّل النظام في خدمات الرعاية الصحية وعرَّضها للخطر باعتقاله المتظاهرين الجرحى من غرف الطوارئ، ولكن سرعان ما تصاعد الأمر حتى وصلَ إلى قصف المشافي في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة واعتقال وتعذيب وإعدام الأطباء الذين كانوا يلتزمون بأخلاق المهنة فيعالجون الجرحى بصرف النظر عن معتقداتهم السياسية. ولقد قتلت قوات النظام جل الأطباء الذين خاطروا بحياتهم وبقوا بسوريا وعالجوا الجرحى، إذ اعتبر النظام تقديمَ العلاج الطبي لـ "الطرف الآخر" جريمةً عقابها الموت.
ومع اقتراب الصراع من سنته الخامسة، قتل النظام السوري ما لا يقل عن 610 شخص من الكادر الطبي، وشنَّ 233 هجوماً متعمداً أو أعمى على 183 مرفقاً طبياً. وقد وثقت منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان عمليات القتل هذه والهجمات، التي يجري تحديثها شهرياً. فالحكومة السورية مسؤولة عن 88 في المائة من الهجمات المسجلة على المشافي وعن 97 في المائة من حوادث قتل العاملين في المجال الطبي، تعود 193 حادثةً منها مباشرةً إلى التعذيب أو الإعدام. وهذه أرقامٌ متحفظة بالنظر إلى صعوبة الإفادة عن هكذا حوادث في ظروف الحرب. لكن ثمة شيءٌ مؤكد، هو أن هذه الهجمات متعمدة وذات أثرٍ تصاعدي على صحة السوريين. فبعد أربع سنوات ومئات الهجمات بات قصف مشفىً واحدٍ فقط يؤدي إلى عواقبَ كارثية. بالفعل، فمع تناقص المرافق الطبية ومقدمي الرعاية، يمكن أن يؤديَ هجومٌ واحد إلى تدمير المشفى الوحيد الذي يخدم حياً بأكمله وقتل الطبيب الوحيد الذي يعمل في هذا المشفى. ومع كل طبيبٍ آخرَ يقتل أو مشفىً آخرَ يدمَّر، يصبح مئات – بل آلاف – السوريين بلا مكان يذهبون إليه لتلقي الرعاية الطبية.
أظهرَ الأطباء السوريون شجاعةً وصبراً في وجه أسوأ كارثةٍ إنسانية في هذا الجيل. ففي السنوات الأربع الماضية، لم يقدموا وحسب الرعايةَ الطبية في ظروفٍ خطيرةٍ مميتة، بل شَهدوا كذلك موتَ زملاءَ وأصدقاءَ وأقاربَ لهم وألوفٍ من المدنيين قضوا في الهجمات غير المشروعة ومن قلة الرعاية الطبية الواجبة ببلدٍ أتت الحر ب على نظام الرعاية الصحية فيه أو كادت تأتي عليه. وبالرغم من اشتداد الهجمات على الصحة بسوريا سنةً بعد أخرى في هذا الصراع، ما يزال الأطباء يخاطرون بكل شيء لإنقاذ حياة الناس.
نظام مدمّر: الكفاح لتوفير الرعاية الصحية بسوريا
بالنظر إلى مستويات العنف المتطرفة الممارَسة ضد أهل هذه المهنة واستهداف قوات النظام المباشر لهم، فرّ آلاف العاملين في المجال الطبي من البلاد نجاةً بأرواحهم، تاركين مدناً كاملة بلا أطباء طوارئ وأطباء قلب وغير ذلك من اختصاصات. واستخدَم مَن بقي منهم أسماءً مستعارة لحماية أنفسهم ولبناء مشافي ميدانية تديرها مجالس محلية ومنظما ت إغاثة. يعمل في هذه المرافق المؤقتة أطباء وممرضون وطلاب طب وبياطرة ومتطوعون دون تدريبٍ نظامي. وأغلقت عشرا ت المشافي لنقص الكادر والتمويل واللوازم، وبقي المدنيون الذين أصابهم قصف قوات حكومتهم من الجو بلا علاج. كما تواجه هذه المشافي باستمرار نقصاً في الضمادات وأكياس الد م والمحاقن ومواد التخدير وأكياس الموتى لأن الحكومة تعيق بصورةٍ منهجية إيصالَ المساعدة الطبية إلى المناطق التي تسيطر عليها المعارضة. كذلك راحت قوات النظام بشكلٍ منهجي تضايق وتعتقل مَن ينقل أدويةً وموادَ ولو كانت بسيطة كالضمادات، لحرمان سكان المناطق التي تسيطر عليها المعارضة من اللوازم الطبية. وفي إحدى الحالات المسجلة سنة 2012، اعتقل ممرض من ريف دمشق لتقديمه دواءً للمعارضة وعذِّب في المعتقل، حتى أ بلغت أسر ته بموته في آب 2014.
تضاعفت الهجمات على الرعاية الصحية أكثرَ من ثلاث مرات في السنة الثانية للحرب، وكان النظام مسؤولاً عن 97 في المائة من الهجمات التي شنت على المرافق الصحية وعن 99 في المائة من 199 حادثة وفاة للعاملين في هذه المرافق. وقد تلقت حلب ودمشق ودير الزور وريف دمشق النصيبَ الأكبر من الهجمات. وبالرغم من أن الأسلحة المستخدمةَ في الهجوم على المشافي لم تختلف عن تلك التي استخدمت في السنة السابقة، فقد انخفض عدد الوفيات الناتجة عن إطلاق النار وارتفع عدد تلك الناتجة عن الإعدام والقصف الجوي والبري. وكان صيف 2012 مدمراً جداً. فقد وَثقت منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان 28 هجوماً على مرافقَ طبية بين تموز وآب – وهو رقمٌ قياسي في الصراع. وكذلك شهر تموز، الذي قتل فيه 26 شخصاً يعمل في المجال الطبي، كان ثانيَ أسوأ شهر من حيث عدد الوفيات في صفوف هؤلاء العاملين، بعد أيار 2014.
الهجمات الضارية بالبراميل المتفجرة
وفي السنة الثالثة للحرب، ازدادت هجمات النظام عنفاً، فكان أكثر من نصف الهجمات التي وثقتها منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان على 53 مرفقاً طبياً هجماتٍ بصواريخ وقصفاً جوياً. وفي كانون ثاني 2014، بدأت قوات النظام حملتها الهجومية بالبراميل المتفجرة. البرميل المتفجر سلاحٌ بدائي قليل الكلفة يصنع من أسطوانةٍ تحشَى بالمتفجرات والشظايا والنفط، وهو يشعَل ويلقَى من طائرةٍ مروحية أو طائرة بجناحين. يزن البرميل الواحد من هذه البراميل بين 90 و900 كغ وهو سلاحٌ مدمرٌ للغاية وغير دقيق، لأنه ينشطر إلى آلاف الشظايا عند الاصطدام. شن النظام هجمتين بالبراميل المتفجرة على المرافق الطبية في ذلك الشهر، كان كلاهما في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة وتعج بالسكان المدنيين. وشنت قوات النظام ستَ هجماتٍ إضافية على مرافقَ طبية في مناطقَ مكتظة بالسكان وتسعَ هجمات على مرافقَ طبيةٍ منعزلة) لتقدّم دليلاً آخرَ على الطبيعة المتعمدة للهجمات (في هذه الفترة، برزت الجماعات المسلحة غير الحكومية كأطراف مهاجمة للمرافق الطبية، مسؤولةٍ عن تسع هجمات على هذه المرافق. وكان تنظيم داعش مسؤولاً مع جماعات أخرى عن هذه الهجمات التي شن ثلاثٌ منها على مشفى تشرين العسكري ومشفى حرستا العسكري. وبالرغم من استخدام قوات النظام هذين المشفيين العسكريين كمركزي اعتقالٍ وتعذيب، ولكن على اعتبار أنهما كانا يقدمان كذلك خدماتٍ طبيةً جارية، ما يجعلهما محميين بالقانون الدولي الإنساني! وفي تشرين الثاني 2013، وثقت منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان أولَ هجمتين على مشافٍ بسياراتٍ ملغمة، قامت بهما جماعاتٌ مسلحة غير حكومية.
وفي السنة الثالثة، قتل 171 عاملاً في المجال الطبي، قتلت قوات النظام 169 منهم، والتي قتلت أعداداً متزايدة من العاملين في المجال الطبي بالقصف الجوي أو التعذيب. في واحدةٍ من هذه الحالات، اعتقلت قوات الأمن الدكتور أسامة بارودي، طبيب الهضمية البارز ومؤسس اتحاد الأطباء السوريين الأحرار، في عيادته بدمشق في شباط 2012 وعذبته حتى مات في المعتقل أواخرَ تموز 2013. كان النظام يضرب المكانَ ثم ينتظر وصولَ المسعفين ليضرب مرةً أخرى، لقي كثيرٌ من العاملين في المجال الطبي مصرعَهم بهجماتٍ مزدوجة، كانت فيها قوات النظام تضرب المكانَ أول مرة، وتنتظر وصول المسعفين إلى المكان ثم تضربه مرةً أخرى. في 18 نيسان 2014، أسقطت قوات النظام برميلاً متفجراً مملوءً بغاز الكلور قرب مشفى وسام بكفر زيتا. أخليَ المرضى والطاقم الطبي من المشفى هرباً من الأبخرة السامة، وتوقفت الخدمات الطبية مؤقتاً. وفي 23 حزيران، قصفت قوات النظام المشفى مرةً أخرى ببراميلَ متفجرة أسقطتها من حوّامة، فدَمرت المشفى هذه المرة. وقتل في هذا الهجوم طفل حديث الولادة عمره ثلاثة أشهر، وقتلت معه ممرضة وجرح عدد من أفراد الطاقم الطبي. وبحسب البيانات التي جمعتها منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان بين 15 آذار 2014 و28 شباط 2015، قتل 162 من العاملين في المجال الطبي وشنَ 82هجوماً على مرافقَ طبية. منها 70 هجوماً شنتها قوات النظام على هذه المرافق، استخدمت في الهجوم صواريخ وقذائف صاروخية في 50 في المائة من الوقت وبراميل متفجرة في 40 في المائة. واستخدمت قوات النظام البراميلَ المتفجرة 12 مرة على الأقل في مهاجمة المرافق الطبية شرقي مدينة حلب فيما بين نيسان وحزيران 2014.
وخلال "الصراع"، استخدمت قوات النظام البراميلَ المتفجرة في 32 هجوماً على الأقل على 24 مرفقا طبياً. ولم تستخدم البراميلَ المتفجرة قرب خطوط الجبهة أو في الأماكن السكنية الواقعة تحت سيطرتها) خوفاً من إهلاك مؤيديها (بدلاً من ذلك، استخدَمت القذائفَ الصاروخية والصواريخ، التي تستطيع إصابةَ أماكنَ محددة.
وكانت قوات النظام مسؤولةً عن 93 في المائة من 162 حادثة قتل لعاملينَ في المجال الطبي السنة الماضية. وبالرغم من أن عددَ الوفيات الناجمة عن إطلاق النار قد انخفض، ارتفعت كثيراً أعداد الوفيات الناجمة عن القصف المدفعي والجوي. وطوال الحرب سجلت محافظ حلب أعلى نسبةٍ مئوية للوفيات الناجمة عن القصف المدفعي والجوي. وقد استهدف أكثر من 64 في المائة من الذين قتلوا في صفوف العاملين في المجال الطبي السنة الماضية لإنقاذهم حياةَ الناس أو أثناء قيامهم بعملهم وكانت هذه أعلى نسبة تسجَل خلال الحرب. ولقيَ كثيرٌ من العاملين في المجال الطبي مصرعَهم بهجماتٍ مزدوجة، كانت فيها قوات النظام تضرب المكانَ أول مرة، وتنتظر وصولَ المسعفين إلى المكان ثم تضربه مرةً أخرى. ففي 2 تشرين أول 2014، ذهب طبيبٌ ومسعف إلى مكانٍ في حي الحيدرية بمدينة حلب ضربته قوات النظام ببرميلٍ متفجر. وفيما كان الاثنان يعالجان جرحى الهجوم، ضربت قوات النظام المكانَ نفسَه ببرميلٍ متفجرٍ آخر، فقتلتهما معاً.
"لا مبالاة" العالم
استهدف النظام السوري الرعايةَ الصحية واستخدَم ذلك بشكلٍ متزايد كسلاح حرب لتدمير معارضيه بحرمانهم من الرعاية الطبية، وقتل بعمله هذا آلافاً من المدنيين. وهوجمت الطواقم والمرافق الطبية لأنها وضعت حاجات المرضى أولاً وقدمت الرعاية لكل أطراف الصراع.
يقول التقرير: "لاحظت بعض الجماعات المسلحة (غير الحكومية) لامبالاةَ المجتمع الدولي بهذه الانتهاكات المتكررة للقانون الدولي فاتبعت تكتيكات النظام". ورأت منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان هذه التكتيكات نفسَها تنتشر حول العالم: "فأطراف الصراع بأوكرانيا وغزة وجمهورية أفريقيا الوسطى شنت عشرات، إن لم يكن مئات، الهجمات على الطواقم والمرافق الطبية سنة 2014".
وتحول رمزا الصليب الأحمر والهلال الأحمر من دريئة حماية إلى دريئة استهداف لظهور أولئك الذين يخاطرون بحياتهم وهم يعملون لإنقاذ الآخرين. فلابد للمجتمع الدولي من التصرف بحزم واستعاد ة المعيار الذي يقرر وضعَ الحماية للطواقم والمرافق الطبية. صحيح أنه فات الأوان لكثيرٍ من السوريين من الطواقم الطبية التي استهدفت والمدنيين الذين باتوا بلا مكان يلجؤون إليه بحثاً عن علاج ينقذ حياتهم – لكنَّ العملَ المنسق يمكن أن يعكسَ هذا الاتجاه قبل أن يصبحَ هو المعيارَ الجديد السائدَ في الحروب.
ليس من الواضح كم من الوقت سيصمد نظام الرعاية الصحية وطواقمه المقهورة المسحوقة الممزَقة بسوريا. لكنَّ سنةً أخرى من البراميل المتفجرة وإعدام الأطباء ستسبب دماراً استثنائياً لملايين السوريين العالقين في مرمى النيران، الذين يموتون من جروح الحرب ومن الأمراض التي كان يمكن معالجتها.
*منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان
منظمة دولية وحائزة على جائزة نوبل، أسسها مجموعة من الأطباء عام 1986، اعتمدت المنظمة على الطبَ والعلم لتوثيق الأعمال الوحشية واسعة النطاق والانتهاكات العنيفة لحقوق الإنسان ولفت الانتباه إليها. وقامت على فكرة أن مهنيي الصحة، بما لديهم من مهارات متخصصة وواجبات أخلاقية وأصواتٍ مسموعة، هم في وضعٍ فريد يتيح لهم الإسهام في وقف انتهاكات حقوق الإنسان. تستخدَم المنظمة التحقيقات وخبراتها للدفاع عمن يتعرضون للاضطهاد من العاملين في المجال الصحي، ولمنع التعذيب، وتوثيق الأعمال الوحشية واسعة النطاق ومساءلة منتهكي حقوق الإنسان.