بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد : فى مقالتنا هذه إن شاء الله سنرد على تهافت الكاتب عارف الركابى ولن ننجرف معه فى السباب والمهاترات والرمي بالتضليل بقدر ما نرمي فى إفادة القارئ لموافقة الحق والأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة. وقد ذكر الكاتب أنه أحبط إحباطاً شديداً لما رأى أن من يرد على تهافته مقلداً :
أولاًُ : يقال له فى أي كتاب الله وجدت أن المقلد لا ينبغى أن يصدع بالحق ويبطل الباطل وأين أنت من قوله تعالى {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البيانات والهدي من بعد ما بيناه للناس فى الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللعنون} وقوله عليه أفضل الصلاة والسلام : من كتم علماً يعلمه جاء يوم القيامة ملجماً بلجام من النار. خرجه أحمد (2/499) وابن أبى شيبة (5/316) وابن حبان (95) وصححه.
ثانياً : أنه لما كان الكاتب من أنصار السنة نقول له أين أنت من قوله صلى الله عليه وسلم : بلغوا عنى ولو آية. نرجو الإفادة من الكاتب.
ثالثاً : قال إن هناك فرق بين المقلد والباحث فقد أتانا الكاتب بعلم جديد ففى أي كتب الأصول أتانا بهذا الفرق وهذه كتب الأصول كلها بين أيدينا (كتاب الغزالى والجوينى والسعد التفتازانى وغيرهم) لم نجد فرقاً فى هذا المصطلح الذى تبرع لنا به الكاتب.
رابعاً : المعروف فى كتب الأصول الفرق بين المقلد والمجتهد. والباحث يأنف من التقليد وأكثر الأمة من اتباع المذاهب مقلدون والكاتب ليس مجتهداً قطعاً لأن من يجهل أبسط مصطلحات أصول الفقه لا يكون مقلداً فضلاً أن يكون مجتهداً. ناهيك أن يكون متصدراً للفتاوي وإرشاد الناس.
خامساً : (وللحق الواضح) أن كلمة باحث مأخوذة من بحث والبحث هو الترجمة الحرفية لكلمة (research) الإنجليزية فكل من يكتب فى موضوع فهو باحث وهذا المصطلح مما أتى به الغرب والمعروف فى كتب الفقه أن الرجل يكتب باباً فى كذا وفصلاً فى كذا وكتاباً فى كذا وأما البحوث فهي من المستحدثات (وكل محدثة بدعة ؟؟).
سادساً : إذا قيل أن هذا مقلد أو مجتهد فإنه لا ينصرف إلا إلى العلم الشرعى والدينى فبينما الباحث قد يبحث فى حق وفى باطل بل لو ان أحداً كتب فى معاداة الإسلام بحثاً لسمى باحثاً وربما نال درجة الدكتوراة مثلما نالها الباحث. فانظر رحمك الله كيف أطلق الكاتب على نفسه (لفظة الباحث وأنف أن يكون مقلداً)
وللعلم أنا ممن يحمل درجة الماجستير والدكتوراة التى يصدر بها الكاتب اسمه وهى لا تعنى لنا شيئاً بل العلم الأصولى لا يؤخذ إلا من صدور الرجال بالسند المتصل إلى النبى صلى الله عليه وسلم وليس من السطور والكتب وحدها.
سابعاً : قد رمانا الكاتب (هدانا الله وإياه) بالإنزالق الخطير والإنحراف والضلال بسبب التقليد ومع أنه فى بحثه غارق فى التقليد إلى أذنيه فجميع ما ذكره من وقفات منقول بحروفه أو بتصرف قليل من كتب التقلاوي والعثيمين وابن باز ولا يتعدى ما قاله العريفى الذى استجلبته شركة سودانى حديثاً للكلام حول المولد. فأي بحث أو باحث مثل هذا؟ ومع تقليده الأعمى لا يعدو ما فعله الكاتب أن يعد تكراراً فى منع الإحتفال بالمولد النبوي الشريف.
والكاتب بتقليده الأعمى ينطبق عليه قوله فينا (فأوقع فيه نفسه) فلو أن الكاتب خرج عن ربقة التقليد لما نثر تلك الكلمات ولما وقع فى تناقض عريض ولما أدخل نفسه فى نفق مظلم محرج لا أدري كيف رضيه لنفسه.أهـ
ثامناً : يجتهد هو وأهل نحلته فى زج المولد قسراً وإدخاله فى جملة المبتدعات ويتمحلون الأدلة فى ذلك وسنبين إن شاء الله الأدلة الصحيحة على جواز المولد فى الرد على هذه الوقفات حتى تنقشع سحابة الأوهام والتهافتات التى ذكرها هو ومن اقتدى به. ثم إن الكاتب أتى بقاعدة غريبة وهى أن على المرء أن يعرف الدليل ثم يعتقد بعد ذلك ، مع أن الفطرة السليمة التى ركزها الله فى القلوب تقتضى الإعتقاد اولاً وعلى هذه القاعدة على المرء أن يستمر على كفرانيته ثم يطلب الدليل على الوحدانية ثم يسلم بعد ذلك ويترك فطرة الله التى فطر الناس عليها من إيمان بالله ورسله ومحبته.
الكاتب رد علينا فيما كتبناه في الوقفة الخامسة : أن كلمة دكتور ممااختص به النصارى ، فهرب من الإجابة بقوله فالكاتب لا يفرق بينما هو من خصائصهم وما ليس ذالك. فيقال له بين لنا هذا الميزان السحري الذي نستطيع أن نفرق بين مااختصوا به مما لم يختصوا به . ونحن على علم بميزان مدعي السلفية في ذالك ، فإذا قيل لهم ماحكم الإحتفال بالعيد الوطني والنصارى يفعلونه مثله قالو ا هو جائز لا شئ فيه ، وإن قيل لهم ماحكم الإحتفال باسبوع محمد ابن عبدوهاب وبيان سيرته وأفعاله مع مافيه من المشابهة قالوا هو فعل خير وبركة ؟؟ وإذا قيل لهم ماحكم الإحتفال بالمولد النبوي الشريف وبيان السيرة والشمائل قالوا هو مشابهة للنصارى وبدعة ضلالة . فهذا ميزان السلفية فالله المستعان .؟؟؟
وقبل الرد التفصيلي نقول ماحكم المولد النبوي الشريف لمن يحتفلون به. فجميع الذين يحتفلون بالمولد النبوي الشريف متفقون على أن حكم إقامة المولد هو الجواز أو الإستحباب والذين يقولون ببدعيته ينطوي عندهم تحت البدعة الحسنة وسنورد إن شاء الله كلام العلماء فى ذلك مفصلاً.
تاسعاً : وها نحن نرد على تهافت الباحث بأن هناك هروباً كلياً وجزيئاً ونوقف وقفاته التى زعمها وسنبدأ بالوقفة الأولى :
ويتخلص كلامه فيها أن من يحتفل بالمولد يجب عليه أن يتأكد ويتحرى أن هذا الإحتفال لا يوقعه فى مخالفة النبى صلى الله عليه وسلم.
الرد : مما هو معروف لكل من يحتفل بالمولد النبوي أن المولد النبوي الشريف لا تتعدى أفعاله الآتى :ــ ذكر يوم ولادته ــ وتعظيمه والفرح به وفعل الطاعات وإطعام الطعام والذبائح مع ذكر سيرته وأحواله ومدحه وضرب الدفوف والإجتماع لذلك إظهاراً للسرور.
1- فتعظيم يوم ولادته ثابت عن النبى صلى الله عليه وسلم فعن قتادة الأنصاري قال سئل النبى صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الأثنين قال ذاك يوم ولدت فيه ويوم بعثت فيه أو أنزل علي فيه. خرجه مسلم وابوداود وابن حبان والحاكم. فقد علل النبى صلى الله عليه وسلم صيامه بأنه يوم ولادته وهو بداهة يعبر عن الإهتمام بهذا اليوم أو المولد تنبيهاً إلى أنه ينبغى أن يهتم به من استطاع ذلك فهذا أصل أصيل فى الإعتناء بالمولد.
2- وأما إظهار السرور والفرح برسول الله صلى الله عليه وسلم والإبتهاج به فهو مطلوب شرعاً فقد جاء القرءان الكريم بذلك فقال تعالى {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا} فقد أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضى الله عنهما قال فضل الله العلم ورحمته محمد صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} الدر المنثور (4/367) للإمام السيوطى. وقال صلى الله عليه وسلم : إنما أنا رحمة مهداة. خرجه الدارمي مرسلاً (15) والترمذي فى العلل موصولاً (685) ورجاله ثقات.فنحن مأمورون بالفرح كتاباً وسنة مع ما يجب علينا من محبته وتوقيره وتعظيمه ومع أن هذا الفرح مأمورون به فى كل وقت وحين إلا أنه يتأكد فى يوم اثنى عشر من شهر ربيع الأول لقوة المناسبة وملاحظة الوقت. قال السيوطى فى الفتاوي (1/188) : وقد سئل شيخ الإسلام حافظ العصر أبو الفضل أحمد بن حجر عن عمل المولد فأجاب بما نصه : أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها ، فمن تحرى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة وإلا فلا ، قال : وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي صلى الله عليه وسلّم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم فقالوا هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى فنحن نصومه شكراً لله تعالى ، فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما من به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة ، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة ، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة ، وأي نعمة أعظم من بروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم ، وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء
وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بذكر نعمه العامة والخاصة ولا ريب أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فى ميلاده وفى جميع أحواله نعمة من نعم الله عز وجل الدائمة النفع وقد ثبت فى البخاري (3/6) : عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما أنه قال عند ذكر قوله تعالى {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار} والله هم كفار قريش ومحمد صلى الله عليه وسلم نعمة الله. فإذا كان صلى الله عليه وسلم نعمة فميلاده نعمة ولقد جاء الأمر بذكر نعم الله فى كتاب الله مكرراً {لقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله} وأيام الله هى أيام ابتلائه ونعمه ومنها ميلاد سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم وقال تعالى {واذكروا نعمة الله عليكم} وقال بعض أهل العلم من أهل التفسير من الصحابة رضى الله عنهم نعمة الله هى سيدنا محمد بن عبد الله وهذا القول لا يتعارض مع الأقوال الأخري من أن المراد بالنعمة رسالة الإسلام لأن النبى صلى الله عليه وسلم هو الذى جاء بكل هذا من عند الله وهو صلى الله عليه وسلم منة من الله تعالى قال الله تعالى {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم أياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفى ضلال مبين}.
3- وأما فعل الطاعة فى يوم ولادته صلى الله عليه وسلم فهى أيضاً ثابتة فى فعل السلف فعن معمر قال عروة وكانت ثويبة مولاة لأبي لهب أعتقها فأرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما مات رأى أبا لهب بعض أهله في النوم فسأله ما وجدت فقال ما وجدت بعدكم راحة غير أني سقيت في هذه مني في النقرة التي بين الإبهام والتي تليها بعتقي ثويبة. خرجه البخاري (4813) وعبد الرزاق (13955) وأبو عوانة (3/113) وقد ذكر السهيلى فى الروض الأنف أن الراي له هو أخوه العباس وكان ذلك بعد سنة من وفاة أبى لهب وقال للعباس ما لقيت بعدكم راحة إلا أن العذاب يخفف عنى يوم الأثنين وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد يوم الأثنين وكانت ثويبة قد بشرته بمولده وقالت له أشعرت أن آمنة ولدت غلاماً لأخيك عبد الله فقال لها اذهبى فإنت حرة.أهـ فأبو لهب الكافر الذى ذم فى الكتاب جوزي بفرحه بمولد النبى صلى الله عليه وسلم وقد علق على هذا الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقى قائلا :
إذا كان هذا كافراً جاء ذمه فتبت يداه فى الجحيم مخلداً
أتى أنه فى يوم الأثنين دائما يخفف عنه بالسرور بأحمدا
فما الظن بالعبد الذى كان عمره بأحمد مسروراً ومات موحدا
وأما الإجتماع على سيرته وذكر شمائله ومغازيه وأيامه من الأمورالمستحبة إن لم تكن واجبة فعن على زين العابدين بن الحسين قال كنا نتعلم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نتعلم السورة من القرءان. خرجه الخطيب وابن عساكر فانظر إلى ديدن السلف الصالح. وأما سماع مديحه وإنشاد الأشعار فى ذلك فكل هذا مجمع عليه وثابت فى الأحاديث الصحيحة وقد قال عليه الصلاة والسلام : ما اجتمع قوم فى مجلس لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على النبى إلا كان عليهم ترة أي نقصاً. وقد قدمنا فى المقال السابق أن الصحابة كانوا يسمعون لحسان مدحه وإنشاده فى المسجد النبوي الشريف وقال حسان لعمر بن الخطاب حين أراد منعه كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك ثم التفت إلى أبى هريرة أنشدك الله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أجب عنى اللهم أيده بروح القدس قال اللهم نعم. خرجه أحمد والبخاري ومسلم كما تقدم.
وأما الفرح والإبتهاج وضرب الدفوف فالمتفق عليه بين أهل السير أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة مهاجرا استقبلوه أهل المدينة يضربون الدفوف وينشدون الأناشيد والأشعار ومنها القصيدة المشهورة طلع البدرعلينا **من ثنيات الوداع ، وجب الشكر علينا **ما دعا لله داع .. الـخ وقد ثبت نحوه في سنن ابن ماجة والحاكم وصح أيضا في مسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه حين قدم من تبوك استقبله أهل المدينة نساءهم وصبيانهم فعلوا مثل ماتقدم وثبت ذالك في الترمذي (1718 ) والطبراني في الكبير(6618) .
عن أنس قال كانت الحبشة يزفنون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرقصون ويقولون محمد عبد صالح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يقولون قالوا يقولون محمد عبد صالح إسناده صحيح (الأحاديث المختارة ج 5 ص 60)
فإذا كانت مفردات المولد النبوي الشريف كلها لها أصل فى كتاب الله وسنة النبى صلى الله عليه وسلم وفعل السلف الصالح فأين البدعة التى صاحبها فى النار؟ ونقول إذاً هى النتيجة التى يتحقق بها موافقة الشرع والحصول على الأجر والثواب كما قال الباحث. ثم نتساءل هل رجع الكاتب إلى سنة رسول الله وكتابه في إنكارالمولد أم هو التقليد الأعمي؟؟؟؟؟
الوقفة الثانية : وتتلخص فى الآتى أنه لم يفعل فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم ولا فى زمن الصحابة إلى سنة ثلاثمائة وخمسين.
الرد : يتلخص من كلام الكاتب أن السلف الصالح لم يفعلوا المولد النبوي الشريف فالكاتب على جهل كبير بعلم الأصول وأن أصول التشريع هى الكتاب والسنة والإجماع والقياس وأن سنة النبى صلى الله عليه وسلم هى أما قوله وفعله وإقراره. أما الترك بمعنى أن النبى صلى الله عليه وسلم ترك شيئاً ما أو ترك السلف الصالح له لا يدل على الكراهية فضلاً عن التحريم ناهيك أن يكون بدعة صاحبها فى النار وليس هناك سنة تركية وهذا أمر معروف عند علماء الأصول وأهل السنة والجماعة. وليس من أصول الفقه الإسلامي التحريم بمجرد الترك وهذه الحجة وهى عدم فعل السلف لشئ ما هى حجة يلوكها عوام الناس وخاصة هؤلاء الوهابية وليس لها أصل تقف عليه عند علماء الأصول فقد قدمنا أن الكاتب قليل الإطلاع ولو أنه اطلع على رسالة الشيخ الدكتور حسن مصطفى التى عنوانها الترك لايفيد المنع لما تفوه بهذا الكلام الذى يقوله العوام فهى رسالة مفيدة فى هذا الباب فنرجو على الكاتب ومن على شاكلته أن يقرأ هذه الرسالة القيمة المفيدة. وقد قال الشيخ حسن فى هذه الرسالة : فمن زعم أن كل فعل خير مستحدث بدعة مذمومة بدعوي أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يفعله فقد أخطأ وتجرأ على الله ورسوله حيث ما ندب إليه فى عموميات الكتاب والسنة وكانت دعواه مردودة.
فعدم إحتفال الصحابة والعلماء والحكام وعامة الناس لا يدخله فى المكروهات فضلاً عن المحرمات والبدعة التى صاحبها فى النار ولايضر المولد وجوازه عدم فعله فى القرون الفاضلة على حسب قواعد الدين الحنيف لكل منصف ناي بنفسه عن الهوي.
قال الكاتب إن أول ما أحدث المولد هم بنو عبيد من الفاطميين وهم أصحاب بدع وتحريف للدين.
قد قدمنا مراراً أن الكاتب قليل الإطلاع فإن إلصاق فعل المولد النبوي الشريف بالفاطميين كذبة تاريخية روج لها الوهابية والكاتب إنما قلد فيه محمد الفاضل التقلاوي زعيم الوهابية وهو الذى أذاع هذه الفرية (أين البحث العلمى) فمن المعروف إن أول من فعل المولد هو الملك المظفر زين الدين على بن تبكتبين قال عنه ابن كثير فى البداية والنهاية (13/136) : أحد الاجواد والسادات الكبراء والملوك الامجاد له آثار حسنة وقد عمر الجامع المظفري بسفح قاسيون وكان قد هم بسياقه الماء إليه من ماء بذيرة فمنعه المعظم من ذلك واعتل بأنه قد يمر على مقابر المسلمين بالسفوح وكان يعمل المولد الشريف في ربيع الاول اويحتفل به احتفالا هائلا وكان مع ذلك شهما شجاعا فاتكا بطلا عاقلا عالما عادلا رحمه الله وأكرم مثواه وقد صنف الشيخ أبو الخطاب ابن دحية له مجلدا في المولد النبوي سماه التنوير في مولد البشير النذير فأجازه على ذلك بألف دينار فهذا احتفالاً رسمياً على مستوي الدولة وأما على مستوي الأفراد فقد كان الإحتفال والإهتمام بميلاد المصطفى صلى الله عليه وسلم قديماً ففى القرن الثالث الهجري روي أن الإمام أبو الحسن الكرخي كان يولى يوم مولد الرسول صلى الله عليه وسلم ما هو خليق به من تعظيم وتقديس
قال الإمام السيوطى فى كتابه الحاوي للفتاوي (1/181-182) : بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ، وبعد فقد وقع السؤال عن عمل المولد النبوي في شهر ربيع الأول ما حكمه من حيث الشرع ؟ وهل هو محمود أو مذموم ؟ وهل يثاب فاعله أولاً ؟ والجواب : عندي أن أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي صلى الله عليه وسلّم وما وقع في مولده من الآيات ثم يمد لهم سماط يأكلونه وينصرفون من غير زيادة على ذلك هو من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها لمافيه من تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلّم وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف.
فلا يضر عمل المولد إن بدأ فعله الفاطميون أو غيرهم طالما كان موافقا لقواعد الشرع وأصوله كما قدمنا إليك من أدلة.
قال الكاتب ترك الصحابة لعدم فعل المولد يعد موضع تساؤل لماذا لم يفعله الصحابة الكرام ولماذا لم يأمروا به؟
وقد قدمنا أن ترك الصحابة لعدم فعل المولد لا يدل على كراهية شئ فضلاً عن تحريمه حسب قواعد أصول الفقه وعلومه لكن الكاتب دائماً ينجرف بحجج العوام. وهذه كلها (ترك السلف الصالح للفعل) دندنة من الحجج العمياء قد أكثر الكاتب من تكرارها وكما أشرنا إليه فإن فى رسالة الدكتور حسن مصطفى شفاء لهذا الداء.
الوقفة الثالثة : قال الكاتب إذا اتفقنا أن هذا الإحتفال بهذا المولد لم يكن حين أنزلت الآية {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام ديناً} فبديهى جداً أنه ليس من الإسلام فنقول إذا اتفقنا مع الكاتب جدلاً على أن هذا المولد لم يكن موجوداً حين أنزلت الآية ثم نناقشه فى قاعدته العجيبة التى لم يسبق إليها فجعل الكاتب إن هذا المولد خارج من الإسلام استدلالاً بهذه الآية وقد قدمنا تكراراً ومراراً أن هذا الكاتب قليل الإطلاع إن لم يكن جاهلاً فإن بعد هذه الآية نزلت آيات كثيرة منها آية الربا وآية الدين وكثير من أحكام العقود وكثير من السنة النبوية التى ذكرها النبى صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية واتفقوا على أنه لم تكن آخر ما نزل من القرءان بل نزلت فى أيام حجة الوداع ولما تنقضى كثير من أحكام الحج ولمعرفة معناها الصحيح نحيل الكاتب إلى كتاب تفسير القرءان المسمى بالتفسير الكبير للفخر الرازي وغيره من كتب التفاسير. فهل نقول على حسب القاعدة السقيمة أن كل هذه الأحكام الدينية صارت خارجة عن الإسلام طالما كانت بعد نزول هذه الأية فانظر إلى هذا العلم البديع رحمك الله.
ذكر الكاتب قول إمام دار الهجرة الذى نقله عنه الشاطبى فى كتابه الإعتصام : من ابتدع فى الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة.
و كلام الإمام مالك هذا يعنى به البدعة المخالفة لأصول الكتاب والسنة كفرق المشبة والمجسمة وغيرها من الفرق مما يري أصحابها انهم على فعل حسن فى الدين وليس المقصود الأفعال المحمودة التى لها أصل فى الكتاب والسنة وفعل السلف الصالح كمسألتنا هذه كما بيناه سابقاً فقد قال ابن رجب فى جامع العلوم (1/268) عند الكلام على البدعة وأنواعها روى ابن حميد عن مالك قال لم يكن شيء من هذه الأهواء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وكان مالك يشير بالأهواء إلى ما حدث من التفرق في أصول الديانات من أمور الخوارج والروافض والمرجئة ونحوهم ممن تكلم في تكفير المسلمين واستباحة دمائهم وأموالهم أو في تخليدهم في النار أو في تفسيق خواص هذه الأمة أو عكس ذلك.أهـ فالراحح الصحيح عند حماهير العلماء أن المحدثات ليس كلها ضلالة قال الإمام الشافعى كما نقله عنه البيهقى (فى معرفة السنن والآثار) أخبرنا أبو سعيد حدثنا أبو العباس أخبرنا الربيع أخبرنا الشافعي قال : ولا أعلم التسبيح في التكبير والسلام في الصلاة إلا محدثا ولا اراه قبيحا مما احدث إذا كثر الناس قال والمحدثات من الأمور ضربان : أحدهما : ما احدث يخالف كتابا أو سنة أو اثرا أو اجماعا فهذه البدعة الضلالة .والثانية : ما احدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا وهذه محدثة غير مذمومة . وقد قال عمر رضي الله عنه في قيام شهر رمضان نعمت البدعة هذه - يعني أنها محدثة.أهـ وفى هذا بيان واضح لما أراده الإمام مالك.
وإذا كان الأمر كذلك فقد أحدث الصحابة والمسلمون أشياء كثيرة كانت من صميم الدين فلم يقل أحداً من الناس أن فى ذلك خيانة لله ورسوله ومنها على سبيل المثال لا الحصر جمع الناس على قارئ واحد فى رمضان وجمع الناس على مصحف واحد ونقطه وتشكيله وتقسيمه إلى ثلاثين جزءاً فكل هذا من صميم الدين وقد احدث بعد ذلك علوم الفقه وغيرها من علوم الشريعة وعلوم النحو والصرف التى يستعان بها على فهم الكتاب والسنة وهل يقول فى ذلك خيانة لله ورسوله؟ فعلى الكاتب أن ينظر فيما كتبه ولا يهرع فى التقليد. وقد قال ابن مسعود : كل ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن. وهذا قطعاً بعد النبى صلى الله عليه وسلم.
ومما تقدم يتبين لك الأصول المعتبرة التى ينبنى عليها حكم المولد لكل منصف بما لا داعى لتكرارها.
الوقفة الرابعة : قال الكاتب إذا كان الإحتفال بالمولد النبوي بهذا الشأن فإنه يدخل ضمن البدع التى نهى عنها الشرع وأورد كلام الحافظ ابن رجب (فكل من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين وليس له أصل من الدين......الخ.
وهؤلاء النفر يذكرون أحاديث كل بدعة ضلالة وحديث من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد يضعونها فى غير موضعها ويجعلونها سيوفاً مسلطة لكل من يحدث فعل خير نحيلهم إلى كلام الأئمة فى ذلك قال ابن رجب فى جامع العلوم والحكم (1/266) : فى شرح حديث العرباض بن سارية الذى جاء فيه عن النبى صلى الله عليه وسلم كل بدعة ضلالة. والمراد بالبدعة ما أحدث مما ليس له أصل فى الشريعة يدل عليه وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعاً وإن كان بدعة لغة.أهـ وقال الشيخ حسن مصطفى قال الحافظ ابو بكر بن العربى المالكى ما نصه : وإياكم ومحدثات الأمور أعلموا علمكم الله أن المحدث على قسمين محدث ليس له أصل إلا الشهوة والعمل بمقتضى الإرادة فهذا باطل قطعاً أي هو البدعة الضلالة ومحدث بحمل النظير على النظير فهذه سنة الخلفاء والأئمة الفضلاء. قال وليس المحدث والبدعة مذمومان للفظ محدث وبدعة لا لمعناهما فقد قال الله تعالى {وما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} وقال عمر رضى الله عنه نعمت البدعة وإنما يذم من البدعة ما خالف السنة ويذم من المحدث ما دعى إلى ضلالة. وبمثل قوله هذا قال القرطبى فيستنتج مما سبق من تعريف أهل العلم لقول النبى صلى الله عليه وسلم من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد. استحباب إحداث كل ما له أصل فى الشرع. وهذا بخلاف ما يفهمه المتنطعون وعلى ضوء ما سبق ذكره للقاعدة الأصولية من منطوق الحديث ومفهومه يقول الحافظ ابن رجب إن هذا الحديث يدل بمنطوقه على أن كل عمل ليس عليه أمر الشرع فهو مردود ويدل بمفهومه أن كل عمل عليه أمر الشارع فهو غير مردود. ثم ذكر أيضاً كلام الحافظ ابن حجر فقال هذا الحديث معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده فإن معناها من اخترع فى الدين ما لا يشهد له أصل من اصوله فلا يتلفت إليه أقول هذا الحديث مخصص لحديث كل بدعة ضلالة ومبين للمراد منها كما هو واضح إذ لو كانت البدعة ضلالة بدون استثناء كما يقول المتطاولون على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لقال عليه الصلاة والسلام من أحدث فى أمرنا هذا شيئا فهو رد لكن لما قال من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد أفاد أن المحدث نوعان ما ليس من الدين بأن كان مخالفاً لقواعده ودلائله فهو مردود وهو البدعة الضلالة وما هو من الدين بأن شهد له أصل أو أيده دليل فهو صحيح مقبول فهو سنة حسنة وقد نحا نحوه جمع غفير ممن لهم المرجعية فى علم الأصول والفقه والحديث.أهـ
وأما معنى البدعة فقد بينها سلطان العلماء الإمام عز الدين بن عبد السلام بقوله البدعة فعل ما لم يعهد في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي منقسمة إلى بدعة واجبة وبدعة محرمة وبدعة مندوبة وبدعة مكروهة وبدعة مباحة والطريق في معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة فإن دخلت في قواعد الايجاب فهي واجبة وان دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة وان دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة وان دخلت في قواعد المباح فهي مباحة وللبدع الواجبة امثلة أحدها الاشتغال بعلم النحو الذي يفهم به كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك واجب لأن حفظ الشريعة واجب ولا يتأتى حفظها إلا بمعرفة ذلك وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب المثال الثاني حفظ غريب الكتاب والسنة من اللغة المثال الثالث تدوين اصول الفقه المثال الرابع الكلام في الجرح والتعديل لتمييز الصحيح من السقيم وقد دلت قواعد الشريعة على أن حفظ الشريعة فرض كفاية فيما زاد على القدر المتعين ولا يتأتى حفظ الشريعة إلا بما ذكرناه وللبدع المحرمة امثلة منها مذهب القدرية ومنها مذهب الجبرية ومنها مذهب المرجئة ومنها مذهب المجسمة والرد على هؤلاء من البدع الواجبة والبدع المندوبة امثلة منها احداث الربط والمدارس وبناء القناطر ومنها كل احسان لم يعهد في العصر الأول ومنها صلاة التراويح ومنها الكلام في دقائق التصوف ومنها الكلام في الجدل في جمع المحافل للاستدلال في المسائل إذا قصد بذلك وجه الله سبحانه والبدع المكروهة امثلة منها زخرفة المساجد ومنها تزويق المصاحف واما تلحين القرآن بحيث تتغير الفاظه عن الوضع العربي فالأصح انه من البدع المحرمة والبدع المباحة امثلة منها المصافحة عقيب الصبح والعصر ومنها التوسع في اللذيذ من المآكل والمشارب والملابس والمساكن ولبس الطيالسة وتوسيع الاكمام وقد يختلف في بعض ذلك فيجعله بعض العلماء من البدع المكروهة ويجعله آخرون من السنن المفعولة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بعده وذلك كالاستعاذة في الصلاة والبسملة.أهـ
وهو يبين بجلاء لمعنى البدعة. وفى كتاب الفتاوي الشرعية إصدار إدارة الإفتاء والبحوث بدائرة الأوقاف والشئون الإسلامية بدبى (6/16) : بعد أن ذكروا ما قاله سلطان العلماء فإنهم قالوا وهذا التقسيم لسطان العلماء العز بن عبد السلام فى كتابه قواعد الأحكام وتبعه كل من أتى بعده من محدثين وفقهاء وغيرهم كابن الأثير فى النهاية (1/106) والحافظ ابن حجر فى الفتح (13/254) وهو تقسيم استقرائي وله ما يدل عليه من نصوص السنة المشرفة.أهـ
أخيــرا : يدندن الكاتب وشاكلته ويطرحون هذا السؤال هل المولد من الدين .
الجواب : إن كان يقصد بالدين أنه من أركان الإسلام كالصلاة مثلا فيقال لا وإن كان يقصد به أنه مستحب وأن فاعله مأجور فنقول نعم لما قدمنا من أن مفردات المولد كلها لها أصل في الشرع بالاستحباب ، وقد يكون واجبا في حالة وهي ماإذا كان في بلاد يقل فيها المسلمون ولا تتيسر مناسبة الدعوة إلا في تلك الأيام فهي واجبة لأن الدعوة إلى الإسلام وبيانه من فروض الكفايات . وكذالك يجب إذا علم أن أهل البلد يجهلون السيرة النبوية أوأحكام الدين كمافي كثير من البلدان التي لا تتكلم العربية وكان لا يتيسر اجتماعهم إلا في تلك الأيام وهاهنا يجب لأن تعليم الدين وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وشمائله من الواجبات . وكذالك يجب ويكون من الضرورة إذا كان هناك هجمة من أعداء الإسلام واعتاد الناس الإجتماع لذالك اليوم فعلى العلماء شهود المولد وإقامته لدحض شبهات الأعداء ورد كيدهم . وإذا قيل إن حكم المولد مباح وبدعة حسنة فإن ابتغي بذالك وجه الله وحسنة النية فإنه يكون عبادة مأجور صاحبها لأن المباحات تصير بالنية الصالحة عبادات. قال ابن تيمة قدوة السلفيين في اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم (1/296)(فتعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده وتعيظمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما قدمته لك أنه يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد ولهذا قيل للامام أحمد عن بعض الأمراء إنه أنفق على مصحف ألف دينار ونحو ذلك فقال دعه فهذا أفضل ما أنفق فيه الذهب أو كما قال مع أن مذهبه أن زخرفة المصاحف مكروهة وقد تأول بعض الأصحاب أنه أنفقها في تجديد الورق والخط وليس مقصود أحمد هذا وإنما قصده أن هذا العمل فيه مصلحة وفيه أيضا مفسدة كره لأجلها فهؤلاء إن لم يفعلوا هذا وإلا اعتاضوا الفساد الذي لا صلاح فيه مثل أن ينفقها في كتاب من كتب الفجور ككتب الأسماء أوالأشعار أو حكمة فارس والروم فتفطن لحقيقة الدين وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعية والمفاسد بحيث تعرف ما ينبغي من مراتب المعروف ومراتب المنكر حتى تقدم أهمها عند المزاحمة فإن هذا حقيقة العمل بما جاءت به الرسل. أهـ