أهذاف الدرس ..
1- أن يتعرّف الطالب إلى المجاز العقلي.
2- أن يدرك علاقات المجاز العقلي.
3- أن يكتسب مهارة استخدام المجاز العقلي.
المجازُ العقليّ1:
المجازُ العَقليُّ أسلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ الُّلغَةِ العَرَبِيَّةِ, يُعَبِّرُ عَنْ سَعَةِ هَذِهِ الُّلغَةِ, وقُدرتِهَا عَلَى تَجَاوزِ حدودِ الحقيقةِ إِلَى الخَيَالِ. وقَدْ قَالَ فِيهِ عبدُ القاهِرِ الجرجانيّ2: "هَذَا الضَّربُ مِنَ المَجَازِ عَلَى حدَّتِهِ, كَنْزٌ مِنْ كنُوزِ البَلاغَةِ, ومادةُ الشَّاعر المفلقِ, والكاتبِ البَليغِ فِي الإبداعِ والإحسَانِ والاتِّساعِ فِي طَريقِ البَيَانِ"3.
والمَجَازُ العقليُّ غير اللغويّ، لأن الأخير يُستعمل فيه اللفظ في غير ما وُضع له ويراد غير ما وُضع له، بينما يُستعمل اللفظ في المجاز العقليّ فيما وُضع له.
فلو قلنا "بنى وزير التعليم العالي جامعةٌ" استعملنا فعل بنى في معناه، وكذلك كلمة الوزير، وأردنا منها دلالتهما الموضوعة، ولكننا سلكنا مسلك مجاز آخر هو الموسوم بالمجاز العقلي والذي يكون فيه المجاز في إسناد وبناء
157
الجامعة إلى الوزير، أي أنّنا ادّعينا في العقل أنّه الوزير, لأنّه الآمر بالبناء مسبِّبهُ هو الباني مع أنه ليس الباني حقيقة. وهذا يختلف عما لو استعملنا لفظ السبب في المُسَبّب وأردنا منه المُسَبِّب كما في المجاز اللغوي المرسل، حيث لا يعود الوزير مستعملاً في الموضوع له.
والعقل هو القرينة على هذا المجاز العقلي وهذا الادعاء والتنزيل، وهذا المجاز في الإسناد, لأن الوزير يستحيل في العادة أن يبنيَ جامعةً وحده، بل هو لا يشارك في بنائها في العادة إلا رمزياً بوضع حجر الأساس، بل رجاله من مهندسين وعُمال هم الذين قاموا بهذا العمل، وإسناد البناء إليه مجاز عقليّ وإسناد للفعل إلى غير صاحبه. ولِهَذَا النَّوعِ مِنَ المَجَازِ علاقاتٌ مختلفةٌ باختلافِ الإسنادِ سنوضِّحُهَا مِنْ خِلَالِ الأمثِلَةِ الآتيةِ:
1- علاقة السببية: يقولُ اللهُ سبحانَهُ حِكَايَةً عَنْ فِرعَونَ: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ﴾4.
فِي هَذِهِ الآيةِ نجدُ يُشبه في تحليله المثل السابق, فالفعلُ "ابنِ" أسنِدَ إلَى غيرِ فاعِلِهِ الحقيقيّ, فإنَّ هَامَانَ - وهُوَ الوزيرُ والمستشارُ - لَا يَقومُ بِفعلِ البِنَاءِ بنفسِهِ, وإنَّمَا مَنْ يَقُومُ بالفعلِ هُمُ العمَّالُ والبنَّاؤونَ, وهُوَ مَنْ يُعطِي الأَمرَ, ولكنْ لمَّا كانَ هَذَا الوزيرُ سَبَباً فِي بِنَاءِ الصَّرحِ, أُسنِدَ الفعلُ إليهِ, فعلاقَةُ هَامَانَ بالبِنَاءِ علاقَةٌ سَبَبِيَّةٌ, ولأنَّ الفِعلَ - هنَا - أُسنِدَ إِلَى سَبَبِهِ, وَهَذَا الإِسنَادُ غيرُ حقيقيّ, لأنَّ الإسنَادَ الحقيقيّ هُوَ إسنَادُ الفِعْلِ إلَى فَاعِلِهِ الحقيقيّ, فالإسنادُ هَذَا مَجَازِيٌّ, ويُسَمَّى بـ "المجاز العقلي".
158
2- علاقة الفاعلية: يقولُ الشَّاعِرُ5:
سَتُبدي لَكَ الأَيّامُ ما كُنتَ جاهِلاً وَيَأتيكَ بِالأَخبارِ مَن لَم تُزَوِّدِ
فِي هَذَا البيتِ إسنادُ الإبداءِ إلَى الأيَّامِ, ونَحنُ نَعلمُ أنَّه لَا يُمكنُ للأيَّامِ أنْ تُبدِيَ وتُظهِرَ, وإنَّمَا هِيَ زمانٌ لِحُصولِ الإبْدَاءِ, وقَد أرادَ الشَّاعرُ حقيقةً أنْ يقولَ لمُخَاطَبِهِ: إنَّ حَوادِثَ الأيَّامِ ستُبدِي لَكَ, فإسنادُهُ الإبْدَاءَ إلَى الأيَّامِ, مجازٌ عقليٌّ, وبِمَا أنَّ الأيَّامَ جزءٌ مِنَ الزَّمَانِ, ومَحَلٌّ لِوقُوعِ الإبداءِ, تكونُ العلاقَةُ علاقَةً "زمانيّة".
ومثلُ هَذَا لَو قُلنَا: "نهارُ الزَّاهِدِ صائمٌ وليلُهُ قائِمٌ", فإنَّ الصَّومَ أُسنِدَ إلَى النَّهارِ, والنّهارُ لَا يصومُ, وإنَّمَا هُوَ زمانٌ للصِّيامِ, وأُسنِدَ القِيَامُ إلَى الَّليلِ, والَّليلُ لَا يَقُومُ, وإنما يقامُ فِيهِ, ونُلاحِظُ فِي هَذَا المثالِ أنَّه لَا يُوجَدُ فعلٌ يُسنَدُ إليهِ وإنَّمَا اسمُ فاعلٍ, وهَذَا جائزٌ, لأنَّ اسمَ الفاعِلِ شبيهُ الفِعلِ فِي قُوّتِهِ وَكَذَلِكَ اسمُ المفعولِ والمَصْدَرِ.
3- علاقة المكانية: يقولُ الحَيصَ بِيص6:
مَلكْنا فكان العَفْوُ منَّا سَجيَّةً فلمَّا مَلَكْتُمْ سالَ بالدَّمِ أبْطَحُ7
لَقَدْ أُسْنِدَ سَيَلانُ الدمِ إلَى أبطحَ, أيْ إلَى غَيرِ فَاعِلِهِ لأنَّ الأبطَحَ مكانُ سَيَلانِ الدَّمِ وهُوَ لَا يَسِيلُ، وإنَّمَا يَسِيلُ مَا فيهِ وهُوَ الدَّمُ, ولمَّا كانَ الإسنادُ إلَى مَكانِ جَرَيانِ الدَّمِ صَارَ الإسنادُ مجَازِيَّا عَلاقَتَه "المكانيةُ".
159
4- علاقة المصدرية: يقولُ أبُو فِراسٍ الحَمْدَانِيُّ:
سَيَذكُرُني قَومي إِذا جَدَّ جِدُّهُم وَفي اللَيلَةِ الظَّلماءِ يُفتَقَدُ البَدرُ
فقد أسندَ الجِدَّ إلى الجِدِّ، أي الاجتهادِ، وهو ليسَ بفاعلِ له، بل فاعلُه الجادُّ - فأصله جدَّ الجادُّ جدًّا، أي اجتهدَ اجتهاداً، فحذفَ الفاعلَ الأصليَّ وهو الجادُّ، وأسندَ الفعلَ إلى الجِدِّ وهو مصدرُ الفاعلِ الحقيقيّ, ولِهَذَا كانت علاقة الإسنادَ المجازيَّ هُنَا هي "المصدريةٌ".
5- علاقة الفاعلية: يقولُ اللهُ - تَعَالَى-: ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا﴾8.
الحِجَابُ فِي أَصلِهِ سَاتِرٌ, وليسَ مَستُوراً, وهنا نقولُ: أُسنِدَ الوَصْفُ المبنيُّ للمَفعولِ إلَى الفَاعِلِ, وكان حقّه أن يُسْنَدَ الى المفعول: لأن اسم المعفول يطلب نائب فاعل أي: مفعولاً، لا فاعلاً، فإذا أُسند إلى الفاعل كانَ هَذَا مَجَازاً عَقليَّاً عَلاقَتُهُ "الفاعليَّةُ". ومثلُ الآيةِ المبارَكَةِ قولُهُ - تَعَالَى-: ﴿إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا﴾9.
6- علاقة المفعولية: يقول الله -تعالى-: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا﴾10.
الحرمُ لَا يكونُ آمِنَاً, لأنَّ الإحسَاسَ بالأمنِ مِنْ صفاتِ الأحياءِ, وإنَّمَا هُوَ مأمونٌ فيه, فاسمُ الفَاعِلِ - هنَا - أسنِدَ إلَى المفعولِ, وهَذَا مَجَازٌ عَقليٌّ عَلَاقَتُهُ "المفعوليَّةُ"11.
160
القواعد الرئيسة
1- المجاز العقلي هو إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له لعلاقة مع قرينة مانعة من إرادة الإسناد الحقيقي.
2- الإسناد المجازي يكون إلى سبب الفعل أو زمانه أو مكانه أو مصدره أو بإسناد المبني للفاعل إلى المفعول أو المبني للمفعول إلى الفاعل.
تمارين
وضّح المجاز العقلي فيما يأتي وبين علاقته وقرينته:
- قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا﴾12
كان المنزلُ عامراً وكانَت حجرُهُ مضيئةً
عظمتْ عظمَتُهُ وصَالتْ صولتُه
لقد لمتِنَا يا أمَّ غيلانَ فِي السُّرَى ونمتِ وما لَيْلُ المَطّيِّ بنائِمِ
ضربَ الدهرُ بينهم وفرَّق شملَهم
والهمُّ يَختَرِمُ الجسيمَ نحافةً ويُشيبُ ناصيةَ الصبيِّ ويُهرِمُ
فبتُّ كأنِّي ساوَرَتنِي ضئيلةٌ مِنَ الرُّقشِ فِي أنيابِها السُّمُّ ناقعُ
- وقال تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ﴾13.
اعطِ مثالاً في كلٍّ من هذه الموارد:
- مجاز عقلي علاقته السببية.
- مجاز عقلي علاقته المفعولية.
- مجاز عقلي علاقته المكانية.
- مجاز عقلي علاقته الزمانية.
- وقال أيضاً: ﴿لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ﴾14.
للمطالعة
بلاغةُ المجازِ المرسلِ والمجازِ العقليِّ15
فوائد بلاغية للمجازين المرسل والعقلي:
إنَّ للمجازِ المرسل، على أنواعه، وكذلك العقليِّ، على أقسامه، فوائدَ كثيرةً منها:
1- الإيجاز، فإنَّ قوله: بنَى الأميرُ المدينةَ أوجزُ من ذكر البَنّائينَ والمهندسينَ ونحوهِما، ونحوه غيره.
2- سعةُ اللفظِ وطرق التعبير، فإنه لو لم يجزْ إلا جرَى ماءُ النهرِ كان لكلِّ معنَى تركيبٌ واحدٌ، وهكذا بقيّةُ التراكيب.
3- إيرادُ المعنى في صورةٍ دقيقةٍ قريبة إلى الذهنِ، إلى غير ذلك من الفوائدَ البلاغيةِ.
4- المبالغة الموجودة، ففي إسناد بناء الجامعة إلى الوزير، مبالغة لطيفة.
5- جمالية الدقة في اختيار العلاقة.
إذا تأمّلت أنواع المجاز المرسل والعقلي رأيت أنّها في الغالب تؤدّي المعنَى المقصود بإيجاز، فإذا قلت: "هزمَ القائدُ الجيشَ" أو "قرّرَ المجلس كذا" كان ذلك أوجزَ من أنْ تقول: "هزمَ جنودُ القائد الجيش"، أو "قرّر أهل المجلس كذا"، ولا شكَّ أنَّ الإيجاز ضربٌ من ضروب البلاغة. وهناك مظهر آخر للبلاغة في هذين المجازين هو المهارة في تخيّر العلاقة بين المعنى الأصلي والمعنى المجازيِّ، بحيث يكون المجاز مصوّراً للمعنى المقصود خير تصوير كما في إطلاق العين على الجاسوس، والأذن على سريع التأثّر بالوشاية. والخفِّ والحافر على الجمال والخيل في المجاز المرسل، وكما في إسناد الشيء إلى سببه أو مكانه أو زمانه في المجاز العقلي،فإنّ البلاغة توجبُ أنْ يختار السبب القوي والمكان والزمان المختصّين.
وإذا دقّقتَ النظر رأيت أنَّ أغلب ضروب المجاز المرسل والعقلي لا تخلو من مبالغة بديعة ذات أثر في جعل المجاز رائعاً خلّاباً، فإطلاقُ الكلِّ على الجزء مبالغة ومثله إطلاق الجزء وإرادة الكلّ، كما إذا قلت: "فلان فم" تريد أنّه شره يلتقم كلَّ شيء. أو "فلانٌ أنفٌ" عندما تريد أن تصفه بعظم الأنف فتبالغ فتجعله كلّه أنفاً. وممّا يؤثر عن بعض الأدباء في وصف رجل أنافيٍّ16 قوله: "لست أدري أهو في أنفه أمْ أنفهُ فيه".
1- أن يتعرّف الطالب إلى المجاز العقلي.
2- أن يدرك علاقات المجاز العقلي.
3- أن يكتسب مهارة استخدام المجاز العقلي.
المجازُ العقليّ1:
المجازُ العَقليُّ أسلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ الُّلغَةِ العَرَبِيَّةِ, يُعَبِّرُ عَنْ سَعَةِ هَذِهِ الُّلغَةِ, وقُدرتِهَا عَلَى تَجَاوزِ حدودِ الحقيقةِ إِلَى الخَيَالِ. وقَدْ قَالَ فِيهِ عبدُ القاهِرِ الجرجانيّ2: "هَذَا الضَّربُ مِنَ المَجَازِ عَلَى حدَّتِهِ, كَنْزٌ مِنْ كنُوزِ البَلاغَةِ, ومادةُ الشَّاعر المفلقِ, والكاتبِ البَليغِ فِي الإبداعِ والإحسَانِ والاتِّساعِ فِي طَريقِ البَيَانِ"3.
والمَجَازُ العقليُّ غير اللغويّ، لأن الأخير يُستعمل فيه اللفظ في غير ما وُضع له ويراد غير ما وُضع له، بينما يُستعمل اللفظ في المجاز العقليّ فيما وُضع له.
فلو قلنا "بنى وزير التعليم العالي جامعةٌ" استعملنا فعل بنى في معناه، وكذلك كلمة الوزير، وأردنا منها دلالتهما الموضوعة، ولكننا سلكنا مسلك مجاز آخر هو الموسوم بالمجاز العقلي والذي يكون فيه المجاز في إسناد وبناء
157
الجامعة إلى الوزير، أي أنّنا ادّعينا في العقل أنّه الوزير, لأنّه الآمر بالبناء مسبِّبهُ هو الباني مع أنه ليس الباني حقيقة. وهذا يختلف عما لو استعملنا لفظ السبب في المُسَبّب وأردنا منه المُسَبِّب كما في المجاز اللغوي المرسل، حيث لا يعود الوزير مستعملاً في الموضوع له.
والعقل هو القرينة على هذا المجاز العقلي وهذا الادعاء والتنزيل، وهذا المجاز في الإسناد, لأن الوزير يستحيل في العادة أن يبنيَ جامعةً وحده، بل هو لا يشارك في بنائها في العادة إلا رمزياً بوضع حجر الأساس، بل رجاله من مهندسين وعُمال هم الذين قاموا بهذا العمل، وإسناد البناء إليه مجاز عقليّ وإسناد للفعل إلى غير صاحبه. ولِهَذَا النَّوعِ مِنَ المَجَازِ علاقاتٌ مختلفةٌ باختلافِ الإسنادِ سنوضِّحُهَا مِنْ خِلَالِ الأمثِلَةِ الآتيةِ:
1- علاقة السببية: يقولُ اللهُ سبحانَهُ حِكَايَةً عَنْ فِرعَونَ: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ﴾4.
فِي هَذِهِ الآيةِ نجدُ يُشبه في تحليله المثل السابق, فالفعلُ "ابنِ" أسنِدَ إلَى غيرِ فاعِلِهِ الحقيقيّ, فإنَّ هَامَانَ - وهُوَ الوزيرُ والمستشارُ - لَا يَقومُ بِفعلِ البِنَاءِ بنفسِهِ, وإنَّمَا مَنْ يَقُومُ بالفعلِ هُمُ العمَّالُ والبنَّاؤونَ, وهُوَ مَنْ يُعطِي الأَمرَ, ولكنْ لمَّا كانَ هَذَا الوزيرُ سَبَباً فِي بِنَاءِ الصَّرحِ, أُسنِدَ الفعلُ إليهِ, فعلاقَةُ هَامَانَ بالبِنَاءِ علاقَةٌ سَبَبِيَّةٌ, ولأنَّ الفِعلَ - هنَا - أُسنِدَ إِلَى سَبَبِهِ, وَهَذَا الإِسنَادُ غيرُ حقيقيّ, لأنَّ الإسنَادَ الحقيقيّ هُوَ إسنَادُ الفِعْلِ إلَى فَاعِلِهِ الحقيقيّ, فالإسنادُ هَذَا مَجَازِيٌّ, ويُسَمَّى بـ "المجاز العقلي".
158
2- علاقة الفاعلية: يقولُ الشَّاعِرُ5:
سَتُبدي لَكَ الأَيّامُ ما كُنتَ جاهِلاً وَيَأتيكَ بِالأَخبارِ مَن لَم تُزَوِّدِ
فِي هَذَا البيتِ إسنادُ الإبداءِ إلَى الأيَّامِ, ونَحنُ نَعلمُ أنَّه لَا يُمكنُ للأيَّامِ أنْ تُبدِيَ وتُظهِرَ, وإنَّمَا هِيَ زمانٌ لِحُصولِ الإبْدَاءِ, وقَد أرادَ الشَّاعرُ حقيقةً أنْ يقولَ لمُخَاطَبِهِ: إنَّ حَوادِثَ الأيَّامِ ستُبدِي لَكَ, فإسنادُهُ الإبْدَاءَ إلَى الأيَّامِ, مجازٌ عقليٌّ, وبِمَا أنَّ الأيَّامَ جزءٌ مِنَ الزَّمَانِ, ومَحَلٌّ لِوقُوعِ الإبداءِ, تكونُ العلاقَةُ علاقَةً "زمانيّة".
ومثلُ هَذَا لَو قُلنَا: "نهارُ الزَّاهِدِ صائمٌ وليلُهُ قائِمٌ", فإنَّ الصَّومَ أُسنِدَ إلَى النَّهارِ, والنّهارُ لَا يصومُ, وإنَّمَا هُوَ زمانٌ للصِّيامِ, وأُسنِدَ القِيَامُ إلَى الَّليلِ, والَّليلُ لَا يَقُومُ, وإنما يقامُ فِيهِ, ونُلاحِظُ فِي هَذَا المثالِ أنَّه لَا يُوجَدُ فعلٌ يُسنَدُ إليهِ وإنَّمَا اسمُ فاعلٍ, وهَذَا جائزٌ, لأنَّ اسمَ الفاعِلِ شبيهُ الفِعلِ فِي قُوّتِهِ وَكَذَلِكَ اسمُ المفعولِ والمَصْدَرِ.
3- علاقة المكانية: يقولُ الحَيصَ بِيص6:
مَلكْنا فكان العَفْوُ منَّا سَجيَّةً فلمَّا مَلَكْتُمْ سالَ بالدَّمِ أبْطَحُ7
لَقَدْ أُسْنِدَ سَيَلانُ الدمِ إلَى أبطحَ, أيْ إلَى غَيرِ فَاعِلِهِ لأنَّ الأبطَحَ مكانُ سَيَلانِ الدَّمِ وهُوَ لَا يَسِيلُ، وإنَّمَا يَسِيلُ مَا فيهِ وهُوَ الدَّمُ, ولمَّا كانَ الإسنادُ إلَى مَكانِ جَرَيانِ الدَّمِ صَارَ الإسنادُ مجَازِيَّا عَلاقَتَه "المكانيةُ".
159
4- علاقة المصدرية: يقولُ أبُو فِراسٍ الحَمْدَانِيُّ:
سَيَذكُرُني قَومي إِذا جَدَّ جِدُّهُم وَفي اللَيلَةِ الظَّلماءِ يُفتَقَدُ البَدرُ
فقد أسندَ الجِدَّ إلى الجِدِّ، أي الاجتهادِ، وهو ليسَ بفاعلِ له، بل فاعلُه الجادُّ - فأصله جدَّ الجادُّ جدًّا، أي اجتهدَ اجتهاداً، فحذفَ الفاعلَ الأصليَّ وهو الجادُّ، وأسندَ الفعلَ إلى الجِدِّ وهو مصدرُ الفاعلِ الحقيقيّ, ولِهَذَا كانت علاقة الإسنادَ المجازيَّ هُنَا هي "المصدريةٌ".
5- علاقة الفاعلية: يقولُ اللهُ - تَعَالَى-: ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا﴾8.
الحِجَابُ فِي أَصلِهِ سَاتِرٌ, وليسَ مَستُوراً, وهنا نقولُ: أُسنِدَ الوَصْفُ المبنيُّ للمَفعولِ إلَى الفَاعِلِ, وكان حقّه أن يُسْنَدَ الى المفعول: لأن اسم المعفول يطلب نائب فاعل أي: مفعولاً، لا فاعلاً، فإذا أُسند إلى الفاعل كانَ هَذَا مَجَازاً عَقليَّاً عَلاقَتُهُ "الفاعليَّةُ". ومثلُ الآيةِ المبارَكَةِ قولُهُ - تَعَالَى-: ﴿إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا﴾9.
6- علاقة المفعولية: يقول الله -تعالى-: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا﴾10.
الحرمُ لَا يكونُ آمِنَاً, لأنَّ الإحسَاسَ بالأمنِ مِنْ صفاتِ الأحياءِ, وإنَّمَا هُوَ مأمونٌ فيه, فاسمُ الفَاعِلِ - هنَا - أسنِدَ إلَى المفعولِ, وهَذَا مَجَازٌ عَقليٌّ عَلَاقَتُهُ "المفعوليَّةُ"11.
160
القواعد الرئيسة
1- المجاز العقلي هو إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له لعلاقة مع قرينة مانعة من إرادة الإسناد الحقيقي.
2- الإسناد المجازي يكون إلى سبب الفعل أو زمانه أو مكانه أو مصدره أو بإسناد المبني للفاعل إلى المفعول أو المبني للمفعول إلى الفاعل.
تمارين
وضّح المجاز العقلي فيما يأتي وبين علاقته وقرينته:
- قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا﴾12
كان المنزلُ عامراً وكانَت حجرُهُ مضيئةً
عظمتْ عظمَتُهُ وصَالتْ صولتُه
لقد لمتِنَا يا أمَّ غيلانَ فِي السُّرَى ونمتِ وما لَيْلُ المَطّيِّ بنائِمِ
ضربَ الدهرُ بينهم وفرَّق شملَهم
والهمُّ يَختَرِمُ الجسيمَ نحافةً ويُشيبُ ناصيةَ الصبيِّ ويُهرِمُ
فبتُّ كأنِّي ساوَرَتنِي ضئيلةٌ مِنَ الرُّقشِ فِي أنيابِها السُّمُّ ناقعُ
- وقال تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ﴾13.
اعطِ مثالاً في كلٍّ من هذه الموارد:
- مجاز عقلي علاقته السببية.
- مجاز عقلي علاقته المفعولية.
- مجاز عقلي علاقته المكانية.
- مجاز عقلي علاقته الزمانية.
- وقال أيضاً: ﴿لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ﴾14.
للمطالعة
بلاغةُ المجازِ المرسلِ والمجازِ العقليِّ15
فوائد بلاغية للمجازين المرسل والعقلي:
إنَّ للمجازِ المرسل، على أنواعه، وكذلك العقليِّ، على أقسامه، فوائدَ كثيرةً منها:
1- الإيجاز، فإنَّ قوله: بنَى الأميرُ المدينةَ أوجزُ من ذكر البَنّائينَ والمهندسينَ ونحوهِما، ونحوه غيره.
2- سعةُ اللفظِ وطرق التعبير، فإنه لو لم يجزْ إلا جرَى ماءُ النهرِ كان لكلِّ معنَى تركيبٌ واحدٌ، وهكذا بقيّةُ التراكيب.
3- إيرادُ المعنى في صورةٍ دقيقةٍ قريبة إلى الذهنِ، إلى غير ذلك من الفوائدَ البلاغيةِ.
4- المبالغة الموجودة، ففي إسناد بناء الجامعة إلى الوزير، مبالغة لطيفة.
5- جمالية الدقة في اختيار العلاقة.
إذا تأمّلت أنواع المجاز المرسل والعقلي رأيت أنّها في الغالب تؤدّي المعنَى المقصود بإيجاز، فإذا قلت: "هزمَ القائدُ الجيشَ" أو "قرّرَ المجلس كذا" كان ذلك أوجزَ من أنْ تقول: "هزمَ جنودُ القائد الجيش"، أو "قرّر أهل المجلس كذا"، ولا شكَّ أنَّ الإيجاز ضربٌ من ضروب البلاغة. وهناك مظهر آخر للبلاغة في هذين المجازين هو المهارة في تخيّر العلاقة بين المعنى الأصلي والمعنى المجازيِّ، بحيث يكون المجاز مصوّراً للمعنى المقصود خير تصوير كما في إطلاق العين على الجاسوس، والأذن على سريع التأثّر بالوشاية. والخفِّ والحافر على الجمال والخيل في المجاز المرسل، وكما في إسناد الشيء إلى سببه أو مكانه أو زمانه في المجاز العقلي،فإنّ البلاغة توجبُ أنْ يختار السبب القوي والمكان والزمان المختصّين.
وإذا دقّقتَ النظر رأيت أنَّ أغلب ضروب المجاز المرسل والعقلي لا تخلو من مبالغة بديعة ذات أثر في جعل المجاز رائعاً خلّاباً، فإطلاقُ الكلِّ على الجزء مبالغة ومثله إطلاق الجزء وإرادة الكلّ، كما إذا قلت: "فلان فم" تريد أنّه شره يلتقم كلَّ شيء. أو "فلانٌ أنفٌ" عندما تريد أن تصفه بعظم الأنف فتبالغ فتجعله كلّه أنفاً. وممّا يؤثر عن بعض الأدباء في وصف رجل أنافيٍّ16 قوله: "لست أدري أهو في أنفه أمْ أنفهُ فيه".