المسافة بين مدينة حمص وبين قصر بشار الأسد بدمشق 162 كم، إلا أن المسافة تتقلص كثيرا بين مسجد الصحابي (خالد بن الوليد) على مشارف المدينة القديمة بحمص وبين (فرع الأمن السياسي) الكائن في حي الإنشاءات الراقي حيث لا تتجاوز (1.5) كم، وهذا يجعل من التأهب الأمني لتنفيذ المهمة سريعاً، إلا أن هذا لم يحدث، فعناصر أمن الدولة في منازلهم يوم الجمعة، ولا يوجد سوى ضابط مناوب ضئيل المستوى وبضع عناصر يشربون (المتة) عند مدخل المبنى.

كل شيء بدا طبيعيا في حمص حتى لحظة خروج المصلين من مسجد خالد بن الوليد، وكان الرأي السائد في الأحياء العلوية الموالية للنظام مطمئن إلى أن سكان المدينة الكارهين لوظائف الدولة، لا يتقنون سوى أعمال التجارة والمهن التقليدية وإصدار النكات اليومية على أنفسهم ومتابعة نتائج نادي (الكرامة) لكرة القدم، ولا يعنيهم ما يجري في حوران "المتمردة"، ولن يعلموا بمظاهرة طالبت بالحرية في سوق الحميدية بدمشق، ولا يعرفون عاطف نجيب إبن خالة الرئيس وما فعله بأطفال حوران، ولا يتابعون قناة الجزيرة والـ (بي بي سي) و (أورينت نيوز).

كانت صدمة كبيرة، حينما أطلقت أول مظاهرة حاشدة في حمص هتافات التضامن مع أهل درعا، ليتحول الشعار إلى (الشعب يريد إسقاط المحافظ)، والتي كانت بالون اختبار (عفوي) لمعرفة مدى رد فعل قوات وعناصر أمن الدولة المتخمين بالعطالة والفساد ومشروب المتة، وبدا شعار (إسقاط المحافظ) وكأنه (نكتة)! أثارت ضحك السوريين وليس سخريتهم، حينما شاهدوا مقاطع اليوتيوب تنتشر في كل وسائل الإعلام، الضحك لم يكن سخرية بل أشبه بنشوة الخائف المترقب لِما سيحدث بعد إطلاق شعار غريب لم يألفوه من قبل، هم فقط سمعوا عن شعارات (إسقاط النظام) في دول الربيع العربي الذي اعتقدوا أن هذا الفصل ممنوع من دخول سورية.

وصعق سكان الأحياء العلوية من المشهد الشهير للفتى (الحمصي) الذي تسلّق إلى أعلى حائط مبنى نادي الضباط في حي جورة الشياح ونزع بقدمه صورة "السيد الرئيس ووالده الراحل" مع تصفيق حاد للمتظاهرين وهتافات تشتم عائلة الأسد. في جمعة أطلقوا عليها "جمعة العزة" في الخامس والعشرين من مارس / آذار 2011، ولكن المضحك الأكثر تعبيرا عن السعادة لدى السوريين كان في إعلان بشار الأسد تلبية مطالب المتظاهرين بالفعل فقد أعلن تنحية صديقه الحميم محافظ حمص.إياد غزال الذي شكل إمبراطورية فساد ونهب وسلب في مدينة حمص وأرهق تجارها بالضرائب والأتاوات وابتزّهم بـ (مشروع حلم حمص) و(مشاريع تنظيم المدينة) التي ستسلبهم المئات من محالهم التجارية ودكاكينهم بتعويض مالي بخس.

اعتصام الساعة.. نقطة اللاعودة
حالة "التمرد" السلمي الشعبي المنظم على دولة الأسد في حمص تجلّى في الاعتصام الشهير في ساحة الساعة بمركز المدينة، وكان النقطة المفصلية في كل ما سيحدث بعد هذا التاريخ، فبعد تشييع عدد من الشهداء الذين سقطوا في المظاهرات السلمية في المدينة احتشد عشرات الآلااف في سوق المدينة وزحفوا إلى (ساحة الساعة) واعتصموا هناك في المساء، وأرسل النظام المرتبك آنذاك بعض رجالاته الأمنيين لتفاوض منظمي الاعتصام ووجهاء المدينة الدينيين، من أجل فض الاعتصام والعودة إلى بيوتهم سالمين وإلّا "فإن الرصاص سيبيد كل من يبقى في الساحة".

كان المعتصمون محتشدين بعشرات الآلاف حتى منتصف الليل، وتوجهت مئات العائلات في المدينة للمشاركة في الاعتصام، وخصص مكان لعشرة آلاف من النساء عند مبنى ابلازا مقابل الساحة، وتحول الاعتصام إلى كرنفال شعبي ممتزج بأهازج الثورة والحرية والكرامة وإسقاط الأسد، وشارك فيه بعض من الثوار من الأقليات العلوية والمسيحية والاسماعيلية، ورفعت شعارت الدولة المدنية والديمقراطية والوحدة الوطنية، ونشبت خلافات بين منظمي الاعتصام مع بعض وجهاء المدينة بسبب دعوات البعض لفض الاعتصام حقنا للدماء التي ستسيل بعد هجوم وشيك لقوات الأمن.

وظهرت بعض الهتافات الطائفية التي تشتم العلويين، ليتبين بعد ذلك بدقائق أن النظام قد دس يبعض الأشخاص التابعين لعناصر أمن الدولة متنكرين بزي رجال دين ملتحين، وتم توثيق أسماء هؤلاء بعد أن كشف المتظاهرون عن أوشام دينية (سيف ذو الفقار) وأوشام صورة (الأسد) على زنودهم، ليتم تشديد الحراسة الشعبية في جميع الطرق المؤيدة إلى ساحة الاعتصام، في تلك الأثناء كان النظام قد أفرغ المدينة الجامعية جنوب المدينة من سكانها وحشد مئات الطلاب الجامعيين القادمين من القرى العلوية للدراسة في جامعة البعث في المدينة، وسلحهم بالعصي والهراوات وشحنهم طائفيا وقادهم عبر باصات النقل الداخلي إلى (طريق الشام) القريب من ساحة الاعتصام.

اعتقد المعتصمون بأن كاميرات أجهزة الموبايل للناشطين التي تصور الاعتصام وتنشرها عبر وسائل الإعلام ستشكل رادعا لقوات الأمن وعناصر الشبيحة وستمنعهم من فض الاعتصام بقوة السلاح، إلّا أن تقديراتهم كانت خاطئة، وبعض السياسيين في حمص اعتبر مواصلة الاعتصام خطيئة كبرى لأنها كسرت حاجز الخوف والتردد في استخدام القوة عند النظام فكان الاعتصام برأيهم أشبه بالانفراد مع وحش كاسر في غرفة! كثير من الآباء من كبار السن في المدينة كانوا يتأملون مشهد أبنائهم المعتصمين والمتظاهرين وهم في حالة نشوة وعنفوان بالحرية القادمة، وهم يدركون بصمت الأهوال التي ستحل بهم فثمن التحرر من بطش الأسد باهظ، وهم الذين خبروا وعايشوا وحشية النظام ونجوا من مجازر الأسد الأب في الثمانينيات من القرن الماضي، وحدث بالفعل ما اعتقدوا به، فكانت المجزرة الرهيبة التي ارتكبتها قوات الأمن وعناصر الشبيحة بعد اقتحامها ساحة الاعتصام وإطلاقها الرصاص الحي عشوائيا على المدنيين بما يعرف في النظام العسكري (الرمي الغريزي)، فكانت أولى مجاز الإبادة الجماعية التي أعلنها الأسد ضد السوريين، وتحولت ساحة الاعتصام في صباح اليوم التالي إلى كتل من مئات الجثامين المترامية التي قام النظام بجرفها عبر آليات ثقيلة.

الحالة التي ميزت حمص في تلك الفترة هي اشتعال أحياء المدينة بالكامل الفقيرة والمتوسطة والراقية، باستثناء الأحياء العلوية والمسيحية (عكرمة الجديدة، النزهة، وادي الذهب، الزهراء، الأرمن، الحميدية)، على عكس المدن الأخرى، التي تفاوت حجم المشاركة بين حي وآخر.

الأحياء المسيحية في حمص كانت في حالة من الرمادية المفرطة، مع توجه عام بالميل نحو الأسد، بعد أن تمكنت المرجعيات المسيحية الدينية من لجم اندفاع الشباب المسيحي في بدايات الثورة نحو مشاركة أهل حمص الثائرة بلذة التمرد على الأسد، وكان من بينهم من قادة في الحراك السلمي وشاركوا في كثير من المظاهرات، ومنهم من اعتقل ومنهم من استشهد، ولكن لم تكن هناك مشاركة مسيحية شعبية حقيقية في الانتماء إلى ثورة المدينة، رغم أن بعض المسيحيين من سكان الحميدية يتحدثون في بلاد اللجوء الأوروبي عن وقوفهم إلى جانب الثوار في حمص وكثيرا ماكانت بيوتهم ملجأ للناشطين الهاربين من قوات الأمن، كما أنهم كانوا يقدمون للثوار بعض قوارير المشروبات الكحولية ليضعوها في بيوتهم في حال تعرضه لاحتمالية المداهمة، حيث من المحتمل جدا أن ينقذه وجود مشروبات الكحول في بيته من التعرض للاعتقال لأن عناصر الأمن ستعتقد بأنه مسيحي!

المظاهرات
مظاهرات حمص شكلت حالات من الصدمة والذهول والارتباك والخوف في الأحياء العلوية، وعجز المتظاهرون عن خلق حالة من الثقة مع الطائفة العلوية، على الرغم من كل شعارات الحرية والمواطنة والتلاحم بين جميع أطياف السوريين من أجل التغيير، التي رفعها وهتف بها المتظاهرون وشارك فيها بعض من الناشطين من الأقليات المسيحية والعلوية والاسماعيلية، إلا أن الرأي العام السائد في الأحياء العلوية كان في الوقوف مع النظام ضد كل من يشتم الأسد ويطالب بالحرية، فكان خيارا قطيعيا عززه النظام وفرز له ميليشيات حزب البعث في المدينة لتأسيس انتماء علوي طائفي غير معلن ألبسوه ثوب الوطنية والبعثية لتخوين أكثر من مليون حمصي ثائر داخل المدينة.

الشعارات التي رددتها المظاهرات السلمية التي استمرت لأكثر من عامين كانت إبداعية في السخرية والتهكم من شخص "بشار الأسد" ووالده (الديكتاتور الراحل حافظ الأسد)، الأمر الذي استغله النظام بقوة لتعزيز الشحن الطائفي وزرع الكراهية في نفوس الطائفة العلوية التي تقطن في المدينة منذ 40 عاماً، تجاه سكان حمص (السنة) الذين يشكلون 80 بالمئة من مجموع سكان المدينة، وتحولت مسألة فقدان الثقة بين الطرفين داخل المدينة إلى (حرب وجودية) غير معلنة خلال فترة التظاهرات السلمية، وانتشرت حالة من الشجاعة المفرطة لدى المتظاهرين السلميين جعلتهم يستهترون ببطش النظام مع الاندفاع المفرط في تحدي قوات الأمن إلى درجة كانوا يسحبون فيها جثث شهدائم من قارعة الطريق وهم يشتمون الأسد، ويرقصون بنعوش شهدائهم تحت وابل رصاص قوات الأمن، وهي صورة لم تشهدها ثورات التاريخ، وقد أذهلت العالم عبر وسائل الإعلام.

الصراع الوجودي في المدينة كان يصب في مصلحة العلويين، الذين يتمترسون في بيوتهم خلف حواجز عسكرية وأمنية، وأرسلوا أبناءهم للتطوع في اللجان الشعبية ومليشيات طائفية، فيما بقيت أحياء الغالبية السنية رهينة الاعتقال التعسفي والتصفية الجسدية في السجون، وأكثر ما أثار وحشية الشبيحة هو شعار "يلعن روحك يا حافظ"، الأمر الذي حوّل عمليات التصفية السرية الهادئة للمعتقلين إلى تصفية ممنهجة ومعلنة تحت التعذيب بأبشع صوره.

تمثال الأسد
حظيت حمص بلقب (عاصمة الثورة السورية)، نظرا للدور الكبير الذي قدمته في الحراك الشعبي وحجم الضحايا الذي دفعت ثمنه، وغير الثوار أسماء كثير من المناطق، فشارعا القاهرة في حي الخالدية وأحد شوارع حي الحميدية شهدا سقوط شهداء كثر برصاص قوات النظام وجيشه، فأطلق الناس عليهما اسم (شارع الموت)، أما ساحة الساعة فقد أصبحت "ساحة الحرية"، و(جامعة البعث) أصبحت (جامعة خالد بن الوليد)، و"مسجد الرئيس" في منطقة الوعر إلى مسجد (الشهيد هادي الجندي)، و(وادي إيران) قرب حي البياضة أصبح شارع الخليفة الراشدي "أبو بكر الصديق"، والساحة الرئيسية في بابا عمرو أصبح اسمها ساحة الشهداء.

لا تختفي النكتة عن روح الحمصيين في أقسى الظروف، حتى في ظروف القهر والموت، فقد أطلقوا لقب "دوار أبو موزة" على تمثال الأسد أو ما كان يعرف بـ "دوار الرئيس"، ومنهم من لقبه بـدوار "هُبل" وهو أحد أرباب الجاهلية نظراً لعبودية مؤيدي الأسد له، وفي وقت أمر النظام بإزالة تمثاله الجاثم منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي في ساحة ملاصقة لحي عكرمة الموالي، وذلك بهدف تخفيف الاحتقان وامتصاص غضب أهل حمص، إلّا أن تلك الحادثة شكلت منعطفا جديدا من حيث إعلان الحالة الطائفية في الأحياء الموالية للأسد ليعرقلوا إزالة تمثال حافظ الأسد، حيث توجهت إلى التمثال على الفور مليشيات علوية مسلحة غير تابعة للجيش أو قوات الأمن والشرطة، وقامت بتشكيل درع بشري مسلح حول التمثال، وحينما اقتربت آلية (التركس) لهدمه رفعت البنادق في وجه عمال البلدية وسائق (التركس) وهددوه قائلين، إذا اقتربت من النصب التذكاري للسيد الرئيس سنقوم بقصف جامع خالد بن الوليد، وقامت امرأة علوية مسنة بتبليل جسدها بالنفط وهددت بإحراق نفسها إن أقدم أحد على إزالة التمثال، فانسحب موظفوا البلدية، ليقوم بعض الأهالي من حي عكرمة وعناصر المليشيا العلوية المسلحة بالطواف حول التمثال مع ترديد شعار (لبيك يا حافظ لبيك) في حالة من الهياج الانفعالي والديني صدم كل من رأى المشهد من أهالي حمص.

التسلح
تكدس السلاح في الأحياء العلوية وتحولت إلى ثكنات عسكرية مع دخول الجيش إلى المدينة، وشن الجيش وقوات الأمن وعناصر الشبيحة حملات دهم واعتقال في الأحياء الثائرة، وامتلأت السجون بالمعتقلين معظمهم من الشباب، وبدأت حملات التصفية الجسدية تتكاثر في سجون الأسد داخل المدينة، الأمر الذي أسفر عن ظهور (الجيش الحر ) في المدينة لحماية المظاهرات السلمية، بهيبته التي جعلت الثوار ينتشون من من جديد واستمرت المظاهرات في زخمها، حتى شن النظام حملته العسكرية على حي بابا عمرو الثائر في شباط عام 2012، وقصفه طيلة شهر كامل، وسويت منازل الحي بالأرض، واقتحمت قوات الأسد الحي وارتكبت المجازر بحق مئات المدنيين، وتم تهجير جميع سكانه بالكامل.

وكان لظهور الثائر عبد االباسط الساروت دورا كبيرا في مظاهرت حي الخالدية والبياضة وأصبح قبلة للتمرد والعنفوان، ولكن الثورة قررت التسلح أخيراً، وتوسعت حملة النظام العسكرية البربرية على المدينة الثائرة وبدأت بنسف الأحياء بالصواريخ والمدفعية وقذائف الدبابات حتى أبادتها بشكل شبه كامل، وكا آخر تواجد للثوار والمدنيين المحاصرين في المدينة القديمة في في أيار عام 2014 بعد صمود دام 700 يوم تحت القصف المتواصل، ليخرج الثوار بموجب هدنة مع النظام بإشراف أممي، ولتصبح مدينة حمص بلا ثوار مسلحين منذ ذلك الحين.

هجر مدينة حوالي 800 ألف نسمة من سكانها الأصليين بعد أن مر الأسد أحياءهم بالكامل، وهم الأن في مدن الشتات أو في مخيمات لبنان وتركيا، ينظرون إلى صور بيوتهم التي أحالها النظام إلى رماد، أما من بقي منهم، حوالي 300 ألف موزعون في حي الوعر وبعض الأحياء الأخرى (كرم الشامي، الشماس، المحطة، الانشاءات)، فيعرفون من خلال ملامح وجوههم التي أصبحت حيادية كالتماثيل، والتي تشي بالكثير من الشعور بالخذلان والقهر، وفي دواخلهم تحيا روح النكتة، ربما لم تمت بعد.مدينتي والثورة - 2: "هيبة" العلويين التي لم يحترمها أهل حمص! 650_433_0142675753085968